فلسطين: من الغياب إلى الحضور (2 - 1)
د. نادية هناوي
يعد كتاب (مسألة فلسطين) (1) لأدوارد سعيد مغمورا بالقياس إلى كتبه الأخرى التي ترجمت ولاقت صيتا ورواجا عربيين. وموضوع الكتاب الدفاع عن القضية الفلسطينيَّة وحق الشعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره. وألفه سعيد في إثناء عقد اتفاقية كامب ديفيد وصدرت طبعته الأولى باللغة الانجليزية عام 1980. ولعل تأكيد سعيد في المقدمة أنه يوجه هذا الكتاب إلى القارئ الغربي هو ما جعل المترجمين العرب يعزفون عن ترجمته مع أنه يكشف كثيرا من خفايا الغرب الامبريالي وما تؤديه ماكنته الإعلامية الرهيبة من دور كبير في تزييف الحقائق. وبسبب ذلك لم تكن المهمة التي انبرى أدوارد سعيد للقيام بهما باليسيرة، وهي تندرج ضمن مشروعه النقدي ما بعد الحداثي المتمثل بقلب المركزيات الاستعمارية وتسليط الأضواء المعرفية والثقافية على الهوامش والتوابع.
وما يجعل دفاع أدوارد سعيد عن القضية الفلسطينية في هذا الكتاب ذا دلالة نضالية هو أنه أصدره في وقت كانت فيه أنظار الرأي العام العالمي موجهة نحو الولايات المتحدة بصفتها راعية عملية السلام في الشرق الأوسط. هذه العملية التي فكك أدوارد سعيد خيوطها وكشف عن كثير من الخفايا التي هي جديرة بالتمحيص وإعادة النظر كتحليلات واستنتاجات تفصح عن طبيعة المخطط الأمريكي – الصهيوني في المنطقة، وهو ما تتأكد صحته اليوم بشكل جلي مع عملية طوفان الأقصى وردة الفعل الهمجية الشرسة والوحشيّة التي بها قابل الصهاينة تلك العملية ناهيك عما أسفرت عنه معطيات الحملة الهمجية -سواء في عدد الطلعات الجوية وما ألقته على رؤوس الأبرياء في قطاع غزة من قنابل وصواريخ أو في كمية الأكاذيب التي بثها العدو الصهيوني حول المقاومة الفلسطينيّة – من مؤشرات تثبت انهيار كيانه داخليا وانكشاف أكاذيبه عالميا. وها هي الهدنة أول تباشير ذلك الانهيار الذي معه تقوى عزيمة الشعب الفلسطيني على استرداد حقوقه المهضومة وفي مقدمتها أن تكون له السيادة الكاملة على أرضه العربية.
وفي أدناه القسم الأول( فلسطين والفلسطينيون) من الفصل الأول المعنون(مسألة فلسطين) وفيه يقول أدوارد سعيد: كانت مفردة (الشرق) بالنسبة لأوروبا في السنوات الثلاثين الأخيرة تقريبا من القرن التاسع عشر تعني كل شيء يقع خلف الخط الوهمي المرسوم ما بين اليونان وتركيا. وهو يمثل قرونا عديدة من الخصوصية الذهنية ومجموعة من السمات الثقافية والسياسية والعرقية التي بها عُرف الشرق من قبيل( العقل الشرقي/ الحساسية الشرقية/ الروعة/ الغموض/ الشهوانية/ الاستبداد) لكن الشرق في نظر الأوروبيين كان نوعا من العمومية العشوائية التي لا ترتبط بالاختلاف حسب، بل أيضا بالمساحات الشاسعة والشعوب غير المتمايزة من الأفراد الملونين والرومانسيين والأماكن الغريبة والغامضة والمدهشة (أعاجيب الشرق) وأي شخص مطلع على التاريخ السياسي في أواخر العصر الفكتوري يعرف أن المسألة الشرقية - كما تسمى آنذاك - كانت محيرة سياسيا إلى أن تم استبدالها بالشرق كموضوع مركزي ومهم.
وبحلول عام 1918 كانت التقديرات تشير إلى أنّ القوى الأوروبية احتلت نحو 85 بالمئة من الكرة الأرضية، وكان الجزء الكبير منها ينتمي إلى المناطق التي عرفت سابقا ببساطة باسم الشرقية ولقد نجحت رومانسية الشرق في التغلب على مشكلات التعامل مع الشرق أولا من خلال المنافسة مع القوى الأوروبية التي تناور هناك وثانيا من خلال نضال الشعوب المستعمرة من أجل الاستقلال.
لقد تحول الشرق من كونه (هناك/ الخارج) إلى مكان للتفاصيل الدقيقة والملحة بشكل غير عادي، وكمكان لتقسيمات فرعية عدة. واحدة من هذه التفاصيل أن الشرق الأوسط ما زال قائما اليوم بوصفه منطقة من الشرق تنطوي على تعقيدات ومشكلات وصراعات لا حصر لها.
وفي خضمها يقف ما سأسميه (مسألة فلسطين) وهي تشير إلى موضوع أو مكان أو شخص نعني به عددا من الأشياء المختلفة. على سبيل المثال أن احدهم يختتم دراسته عن الشؤون الجارية بالقول: والآن أتطرق إلى مسألة X النقطة هنا أن X هي مسألة منفصلة عن كل الأمور الأخرى ويجب التعامل معها بشكل منفصل أولا، وثانيا يستخدم كلمة (المسألة) للإشارة إلى بعض المشكلات الطويلة الأمد لاسيما المشكلات المستعصية والملحة مثل مسألة الحقوق أو مسألة الشرق أو مسألة حرية التعبير، وثالثا وهو الأمر الأكثر شيوعا يمكن استخدام (المسألة) بطريقة تشير إلى أن حالة الشيء -المشار إليه في العبارة- حالة غير مؤكدة ومشكوك فيها كمسألة وجود وحش في بحيرة لوخ نيس على سبيل المثال.
إن استعمال عبارة (مسألة فلسطين) يتضمن ثلاث دلالات:
1) دلالة الشرق الذي في جزء منه توجد فلسطين ضمن عالم مختلف عن العالم الاطلسي المعتاد.
2) دلالة أن فلسطين هي بطريقة ما أكثر القضايا الدولية الشائكة، وتدور مشكلة الحياة في مرحلة ما بعد الحرب حول النضال من أجل ومع فلسطين والذي استنزف طاقات هي أكبر من أي صراع خاضه شعب في مرحلة مماثلة من الزمن.
3) أخيرا وهذا هو سبب تأليف هذا الكتاب أن فلسطين في حد ذاتها هي فكرة محل جدل وموضع نقاش كبير تتنازعه فكرة أن ذلك الاسم يشكل بالنسبة للفلسطيني وأنصاره عملا من أعمال التأكيد السياسي الايجابي في حين هو يعني بالنسبة لأعداء الفلسطينيين عملا يتسم بالقدر نفسه من التأكيد ولكنه أكثر سلبية وتهديدا بالإنكار. وعلينا أن نتذكرهنا أن التظاهرات التي جرت في شوارع المراكز العالمية الامريكية الكبرى خلال الستينيات ومعظم السبعينيات كانت بقيادة فصائل تنادي: إما فلسطين أو ليست هناك فلسطين.
وقد جرت العادة في إسرائيل اليوم الاشارة رسميا إلى الفلسطينيين بجملة (على أنهم أو ما يسمون بالفلسطينيين) وهي عبارة الطف إلى حد ما من تصريح غولداميرز(2) عام 1969 (إن الفلسطينيين غير موجودين).وحقيقة الأمر أن فلسطين اليوم غير موجودة إلا كذكرى أو - وهو الأهم- كفكرة وتجربة سياسية وانسانية وعمل من أعمال الارادة الشعبية المستدامة. وسيكون موضوعي في هذا المقال هو كل تلك الامور المتعلقة بفلسطين على الرغم من أنني لن اتظاهر ولو لحظة واحدة بأن فلسطين بالنسبة لأي شخص يعيش ويكتب الآن في الغرب ليست (مسألة) ومع ذلك فإن الاعتراف بذلك مغامرة في مجال غير مألوف نسبيا بالنسبة لعدد كبير جدا من الأشخاص الذين يقرؤون الصحافة الغربية والذين يشاهدون التلفزيون ويستمعون إلى الراديو والذين يتظاهرون بأكثر من مجرد معرفة سياسية بسيطة والذين يعترفون بآراء الخبراء حول الجدل الدولي ويرون الشرق الاوسط والصراع العربي الاسرائيلي عبارة عن (مشكلة، نضال، نزاع) وهناك اختزال كبير في هذا الرأي بالطبع لكن الخطأ الحقيقي فيه هو أنه في معظم الاحيان يمنع فلسطين حرفيا من أن يكون لها أي علاقة بالشرق الاوسط والذي بدأ بسبتمبر 1978 مع مناحيم بيغن وانور السادات وجيمي كارتر في كامب ديفيد .
إن أغلبية كبيرة من الأدبيات المتعلقة بالشرق الاوسط على الاقل حتى عام 1968 تعطي انطباعا بأن جوهر ما يجري في الشرق الاوسط هو سلسلة من الحروب التي لا تنتهي بين مجموعة من الدول العربية وإسرائيل مع أنه كان هناك كيان حتى 1948 وكان وجود اسرائيل- استقلالها- كما تقول العبارة هو نتيجة لاستئصال فلسطين من بين هذه الحقائق التي لا جدال فيها. وهو ما يجهله معظم الناس الذين يتابعون الاحداث في العالم والشرق الاوسط أو بالأحرى لا يدركونه إلى حد ما. لكن الأهم من استمرار الجهل هو وجود حوالي أربعة ملايين فلسطيني بين مسلم ومسيحي هم معروفون لأنفسهم وللآخرين بأنهم فلسطينيون ويشكلون قضية فلسطين. واذا لم يكن هناك بلد اسمه فلسطين فهذا ليس لأنه لا يوجد هناك فلسطينيون. وهذا المقال هو محاولة لوضع واقعهم أمام قارئ التاريخ الحديث المتعلق بالفلسطينيين وواقعهم الحالي المشتت في أماكن محتملة وغير محتملة.
ولا نكاد نجد ندوة خارجية أو كتابا علميا أو موقفا أخلاقيا متخذا أو يكون كاملا من دون أن يشير إلى الإرهاب الفلسطيني المعروف احيانا ايضا باسم العربي بل أن أي مُخرج يحترم نفسه يخطط لفيلم لن يفوت فرصة تقديم فلسطين إلى طاقم عمله كنوع من الإرهاب. وهنا يمر على ذهني على الفور أفلام Black Sunday وٍSorcerer ومن ناحية أخرى ارتبط الفلسطينيون قانونيا بجميع خصائص اللاجئين الذين يتفاقمون في المخيمات، لتكون هي كرة القدم السياسية التي بها تتلاعب الدول العربية وهي ايضا أي المخيمات أرض خصبة للشيوعية وكثيرة الإنجاب مثل الأرانب وما إلى ذلك. وكثيرا ما لاحظ المعلقون الأكثر تحليلا وعنادا أن الفلسطينيين يشكلون نخبة في العالم العربي ليس لهم أن يتمتعوا الا بأعلى مستوى تعليمي مقارنة بأي مجموعة أخرى هناك، وأنهم في وضع جيد وفي مناصب وأماكن حساسة في النظام السياسي العربي ككل. وفي بعض نقاط الضغط مثل وزارات النفط ومنشآته في الخليج العربي والاستشارات الاقتصادية والتعليمية بالإضافة إلى وجود شريحة كبيرة من البرجوازية العربية كمصرفيين ورجال أعمال ومثقفين ومن المفترض أن يقوموا جميعا بإظهار الغضب واثارة المشاكل والانتقام. وأخيرا ولأول مرة منذ عام 1948 تحول النقاش السياسي الامريكي للقضية الفلسطينية بدءا من الرئيس كارتر من أن يكون معاداة للسامية إلى القول بأن السلام في الشرق الاوسط يجب أن يعالج في النهاية بجدية وأن يضع في الاعتبار المشكلة الفلسطينية.
إن الوطن الفلسطيني والقضية الشائكة المتعلقة بالتمثيل الفلسطيني في مؤتمرات السلام المقترحة هي مسائل بالغة الاهمية وتتحدى الوعي العام بسبب ظهورها لأول مرة بعد عام 1948 كبند مستقل على جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 وهو ما تجسد بالجدل في ظهور ياسر عرفات هناك. لقد أثارت مسألة فلسطين الوعي العام وتغلغلت فيه بطريقة جديدة وربما مواتية على الرغم من التصويت بالإيجاب على تقرير المصير الفلسطيني لأول مرة في الامم المتحدة في عام 1969 .وقد أعرب قرار الجمعية العامة رقم 2535B عن قلق بالغ من أن الحرمان من الحقوق يفاقم الامر بسبب أعمال المعاقبة الجماعية المبالغ فيها مثل الاعتقال التعسفي وحظر التجوال وتدمير المنازل والممتلكات والترحيل وغيرها من الأعمال القمعية ضد اللاجئين وغيرهم من سكان الاراضي المحتلة ثم انتقل إلى إعادة التأكيد على الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني وبعد عام واحد صدر القرار رقم 2627C (بأنه يحق لشعب فلسطين التمتع بحقوق متساوية وتقرير المصير وفقا لميثاق الامم المتحدة). وعلى الرغم من هذه التحديدات التي لا لبس فيها، فان الفلسطينيين ما زالوا شعبا مخصوصا للغاية هو بمثابة مرادف للمشكلات التي لا جذر لها ولا معنى لها ولن يسعدوا كاللاجئين الاخرين (الذين على ما ينبغي وليس ما يبدو) استسلموا ببساطة لكونهم لاجئين.
وبرضاهم على هذا النحو فإنهم يسببون المشكلات. وقد تم الاستشهاد بالأزمات الاخيرة التي تورط فيها الفلسطينيون في لبنان والاردن كأمثلة لإثبات هذه النقطة.
وإذا كان المعلق أكثر تعقيدا فإنه قد يلمح أيضا إلى حقيقة أن الفلسطينيين هم جزء مما هو بلا شك حدث مخيف وهو الاسلام. ووفقا لوجهة النظر هذه التي تتسم بجنون العظمة إلى حد ما حتى لو أشار رئيس الولايات المتحدة إلى المشكلة الفلسطينية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من السلام في الشرق الأوسط، فإنه من غير المنطقي أن تعتبر المشكلة الفلسطينية جزءا لا يتجزأ من عملية السلام في الشرق الاوسط بسبب النفط الاسلامي ، التعصب الاسلامي ، الابتزاز الاسلامي.
إن ما تؤكده هذه المواد جزئيا هو شيء مستعص تماما على الفهم شيء يقاوم اية نظرية أو أي تفسير من قبيل واحد زائد واحد أو أي عرض للمشاعر أو المواقف . أشير إلى الجوهر الواضح وغير القابل لاختزال التجربة الفلسطينية على مدى مئة عام الاخيرة إنه على الأرض المسماة فلسطين كانت هناك اغلبية كبيرة لمئات السنين رعوية إلى حد كبير ولكن لها هويتها الاجتماعية والثقافية والسياسية ويمكن تحديدها اقتصاديا ولها لغتها ودينها بالنسبة لأغلبية كبيرة عربية اسلامية يتكون منها هذا الشعب الذي عرف بنفسه بالأرض التي يزرعها ويعيش عليها .. وبعد تفكك شبه كامل تقريبا تم إتخاذ قرار اوروبا بإعادة توطين وإعادة بناء الأرض لليهود الذين تم جلبهم إلى هنا من أماكن أخرى. ولم تكن هناك اية التفاتة إلى شعب فلسطين في عملية إعادة الغزو الحديثة هذه أو قبول حقيقة أن الصهيونية قد أخرجت الفلسطينيين بشكل دائم من أرضهم وعلى هذا النحو فان الواقع الفلسطيني هو اليوم والامس وعلى الارجح غدا سيبقى قائما على فعل مقاومة هذا الاستعمار الاجنبي الجديد.
ولكن من المرجح أن تظل هناك المقاومة العكسية التي ميزت الصهيونية واسرائيل منذ البداية: رفض الاعتراف وما يترتب على ذلك من انكار لوجود العرب الفلسطينيين الذين لا يتواجدون هناك لمجرد ازعاج غير مريح بل كثورة شعبية لسكان لديهم رابطة لا تنفصم مع الأرض.
إن المسألة الفلسطينية هي صراع بين التوكيد affirmation والرفض denial وهو الصراع الذي يعود إلى أكثر من مئة عام والذي يعرقل ويعمق المأزق بين الدول العربية وإسرائيل. كان الصراع متفاوتا منذ البداية ومن المؤكد أن فلسطين بالنسبة إلى الغرب هي المكان الذي فيه يقيم السكان اليهود الوافدون لانهم نسبيا اوربيون.. يطردون السكان العرب غير المتحضرين . ولا شك أن التنافس في فلسطين كان بين ثقافة متقدمة و( تتقدم) وثقافة متخلفة تقليدية إلى حد ما لكننا بحاجة إلى محاولة فهم ماهية ادوات هذا التنافس وكيف شكلت التاريخ اللاحق بحيث يبدو هذا التاريخ الان وكأنه يؤكد صحة المطالبات الصهيونية بفلسطين في حين يشوه سمعة المطالب الفلسطينية. بعبارة أخرى يجب علينا أن نفهم الصراع بين الفلسطينيين والصهاينة باعتباره صراعا بين الحضور والتغييب حيث يظهر الأول باستمرار وكأنه متغلب على الثاني ويريد القضاء عليه بحجة التخلف واللاحضارة والصمت.
الهوامش:
1 - The question of Palestine a compelling call for identity and justice , Edward W. Said, published by Times books , first edition, New York, USA ,1980,p 3-15.
2 - Goldamier اول رئيسة وزراء صهيونية شغلت المنصب من عام 1969 إلى عام 1974.