عواطف مدلول
الصمت أمام المواقف الغريبة هو الحل الآمن والأمثل دائما، هذا ما كان يكرره سائق الحافلة مع نفسه أثناء سماعه صراخ الركاب السائحين، يرتفع ويصدح مع كل مرة تدخل السيارة أحد الانفاق المظلمة بطريق السفر وبرنامجه المتفق عليه، وبالوصول إلى نهايته تهبط الأصوات بمستواها تدريجيا، حتى تختفي وتتلاشى تماما، فيتحول المشهد الذي يراه بالمرآة الأمامية إلى مسرحية كوميدية لا يفهم مغزاها هو، لكنها تثير الفكاهة والهزل بينهم، فتكون أشبه بالـ(نكتة) التي تقال من أجل تبادل الضحك المقصود بعدها، ثم يبدو الارتياح ظاهرا على الوجوه والانسجام التام واضحا ايضا.
علامات استفهام كثيرة تقفز من ذهنه، باحثة عن أجوبة لما يشاهد من أمور عفوية تحصل بصورة تلقائية، حتى بدون أي تحضيرات واستعدادات وأحاديث مسبقة، وبالعمق لديه انتقاد كبير لما يجري، سرعان ما يتراجع عنه عندما يتذكر أنه برفقة شخصيات معروفة بالثقافة والقيمة العلمية من حملة الشهادات والاختصاصات المرموقة بمجالات مختلفة.
في ختام برنامج تلك الرحلة الأخيرة، الذي اصطحبه الفريق معه، وبعد أن غادر أغلبهم للعودة إلى منازلهم، لم يتبقَ سوى مسؤول الكروب واثنتين آخريين من النساء في السيارة، حيث إنهم يسكنون بالحي نفسه وبأزقّة قريبة لبعضهم، لم يستطع أن يكبح فضوله، الذي دفعه للاستفسارعن معنى تلك الحالة، التي تتكرر خلال أغلب السفرات لهؤلاء الأصدقاء، حيث يلتقون بين آونة وأخرى للذهاب برحلة بحث عن أماكن لم يسبق أن يصلها غيرهم إلا ما ندر، وربما تكاد تكون مجهولة لدى الكثير من الناس، يسعون لاكتشاف بعض رموز وعلامات تاريخ وتراث بلدهم المندثرة، يحفزّهم حبهم للحياة وعشقهم للآثار، وقد تميزوا بذلك إلى جانب أن أعمارهم تجاوزت مرحلة الشباب باستثناء عدد محدود منهم، فمنهم المتقاعد والموظف بالاختصاصات الطبية والعلمية والإعلامية والفنية، خليط متجانس شكّل فريقًا بمثابة أسرة واحدة.
السيدة الجيوليوجية المنسقة لبعض فقرات السفرات ردّت عليه بجواب صريح محاولة اقناعه، بأن ذلك الصراخ إيجابي، فهم لا يعبرون به عن الألم، على العكس هو يخلصهم من أنواع القلق الداخلي، معللة عدم انزعاجهم من ممارستهم له، كونه يحررهم من المشاعر السلبية بما فيها الغضب والحزن، كعملية تنظيف لأعماق الروح من كل المخلفات المسمومة المكبوتة والمخزّنة فيها، فهي وسيلة طاقية مبتكرة لكن أصولها قديمة.
طلبت منه أن يجرّب المرة المقبلة المشاركة معهم بذلك الطقس، لأنها تعتقد بحسب قراءاتها النفسية انه علاجا لبعض الأمراض، وربما على أثره يتعافى المرء من عقده، التي صار الكثير يعاني منها مؤخرا، خاصة بعد الظروف التي مرت بالبلد ولسنوات طويلة، موضحة أن هناك جانبًا آخر للموضوع هو الخروج من الرتابة، وخلق أجواء، فيها شيءٌ من السخرية والبهجة في ان واحد.
الرحلة التي تلتها اعتذر السائق عن مرافقتهم لأسباب طارئة، لكنْ حلَّ معهم سائق آخر قاد الحافلة، وقد تفاجأ بفعالية النفق هذه وكانت ردة فعله صدمة للجميع، عندما أبدى امتعاضه وعدم تقبله لها بعصبية عكّرت صفو مزاج أغلبهم، رافضا الاستمرار بالسير اذا لم يتوقفوا عن الصراخ مع دخول أي نفق.
بذكاء فنان وجّه مسؤول الكروب الرسام الشاب كلَّ المسافرين معه برفع الأيادي حاملة أجهزة الهواتف بعد تشغيل إنارتها الهادئة، وترديد بعض الأغاني وسط عتمة النفق، رحبوا بالفكرة لتصبح بديلا عن الصياح، الذي يرهق حنجرتهم أحيانا، وضجيجه الذي قد يؤثر في السائق، اعجبتهم وطبقوها لمرات عدة، حتى وصلوا لآخر نفق خلال العودة، حيث أنهوا رحلتهم باغنية “سلمى يا سلامة رحنا وجينا
بالسلامة”.