مؤيد أعاجيبي
شهدت اليونان تقدماً وازدهاراً في مختلف ميادين العلوم والفنون قبل مئات السنين، إذ كانت بعض هذه الميادين هي الأولى التي وضعت أسسها. من بين هذه الميادين يبرز فن المسرح، الذي برع في سماء أثينا اعتباراً من القرن السابع قبل الميلاد. كان ذلك خلال الاحتفالات الدينيَّة التي نُظمت في أثينا لتكريم إله الخمر والفرح ديونوسوس.
اقترب الإنسان من مفهوم المسرح عبر الرقص عندما تجاوز التعبير العفوي عن مشاعره، مثل الفرح والحزن والابتهاج والإحباط، إلى التعبير عن حوادث وتجارب حياته بواسطة الرقص. يحاول الإنسان بوصفه إنساناً يواجه عقباتٍ في حياته، سواء كانت هذه العقبات متمثلة في إنسان آخر أو شيء أخر، في مثل هذه الحالات، يصبح الرقص أشبه بالعمل المسرحي، إذ يحمل قيمة يتم تشخيصها ونقلها إلى الجمهور بواسطة هذا الفعل، وجمهوراً يشاهد ويتفاعل مع هذا التشخيص.
في أثينا، نشأت أول حركة مسرحيَّة في بداياتها بشكل مختصر، إذ لم تكن العروض المسرحية تُقدم بانتظام، بل كانت تتضمن ضمن إطار الاحتفالات الدينيَّة فقط. كان الأداء المسرحي جزءاً لا يتجزأ من الاحتفالات الرسميَّة والدينيَّة. مع مرور الوقت، توسّع نطاق هذه المهرجانات ليشمل أجزاءً أخرى من اليونان، مما أدى إلى نشوء ثقافة إقليميَّة مشتركة. أصبحت هذه الفعاليات نواة تأسيسيَّة للمسرح العالمي في المستقبل. لذلك، يُعد الأداء المسرحي، في أساسه البسيط، نشاطاً فنيَّاً يعتمد أسلوباً فريداً في التعبير، إذ كانت هذه البدايات تمهّد الطريق لتطوير المسرح كفن عالمي يتجاوز الحدود الجغرافية ويصبح جزءاً لا يتجزأ من التراث الثقافي للبشريَّة.
إذ يُعد الفن في جوانبه المتعددة نشاطاً إبداعيّاً يُمارسه الإنسان لإعادة خلق تجارب الحياة بوسائل وأساليب متنوعة. وفي هذا السياق، يُعَد الفن شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي، إذ يمثل عملاً إنسانياً قديماً رافق الإنسان منذ العصور الأولى. شهد هذا النشاط الإبداعي تطوراً في الشكل والمضمون، وذلك تبعاً لتطور وعي الإنسان تجاه العالم من حوله. يعكس هذا التطور تحولات حياته الاجتماعية، إذ يُظهر كل عمل فني أصيل شكلاً للوجود الإنساني في العالم.
كانت المسارح تبنى على مساحات واسعة في الهواء الطلق، وكانت غالباً ما تُقام عند سفوح التلال، بهدف استيعاب عدد كبير من الجمهور يصل إلى أكثر من عشرة آلاف مشاهد. كانت تتميز هذه المسارح بتوظيف عدة عناصر ذات مناظر طبيعيَّة خلّابة. وفي منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، بدأ الكتاب في استخدام خلفية أو جدار معلق وراء الأوركسترا، حيث كانت هذه المنطقة تُستخدم كمكان يمكن للممثلين تغيير ملابسهم فيه.
عندما تم تدمير إمبراطورية الفرس لمدينة أثينا في عام 480 قبل الميلاد، تمت إعادة بناء المدينة وأصبح المسرح فنّاً رسمياً، حيث حظي بتفاعل واسع أثناء "العصر الذهبي للدراما اليونانية". في هذا السياق، تم اعتماد تقديم العروض على ثلاثة ممثلين فقط على المسرح، وتم الاعتبار التراجيديا والكوميديا كنوعين مختلفين تماماً، حيث لم يتم دمج جوانب من الاثنين في أي عرض. تُظهر المأساة اليونانية التي جسدها المسرح القديم أنها استمدّت إلهامها من الأساطير القديمة، وكانت تمثل خليطاً فريداً من الشاعريَّة والجديَّة والنزعة الفلسفيَّة. تروي هذه المسرحيات قصة بطل يتصدى للتحديات مع القوى العدوانيَّة للدفاع عن قيمه الأخلاقيَّة، لكن العروض كانت دائماً تنتهي بشكل مأساوي، إما بهزيمة البطل أو موته.
على الرغم من ازدهار المسرح والدراما في اليونان القديمة، لا يعني هذا أن البداية الأولى للمسرح كانت بداية يونانية أو حكراً على الثقافة اليونانية فقط، بل إنّ له أصولاً متعددة. يشير هيرودوت إلى أن الإغريق أخذوا فن المسرحية من الفراعنة المصريين، الذي كان ضمن السياق الديني لديهم. فضلا عن ذلك، يمكن القول إنّ فن المسرح كان موجوداً في بعض الحضارات القديمة التي سبقت الحضارة الإغريقيَّة. على الرغم من أنه قد اتخذ أشكالاً مختلفة عن المسرح الإغريقي المعروف.
أما ظهوره عند اليونان فيعكس تطوراً تدريجياً لهذا الفن عبر العصور. تحديداً، يظهر أن المسرح اليوناني اتخذ شكلاً جماهيريَّاً فريداً، إذ تم تطوير عناصره وترسيخها لتكون جزءاً لا يتجزأ من الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة للمجتمع الإغريقي. كان المسرح وسيلة لتعبير المجتمع عن أفكاره وتوجهاته السياسيَّة، وكان يخدم قضايا الإنسان ومصيره. وقد انعكس هذا في الأعمال المسرحية الرائعة التي عرفتها اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، إذ تجلى صراع الإنسان مع الآلهة وتلاحمه معها، وفقاً للأساطير الدينيّة التي كانت تحكيها.
قدم المسرح اليوناني، إلى جمهوره وإلى الإنسانيَّة بأسرها، نصوصاً مسرحيَّة تتسم بالغنى والقيمة الإنسانيَّة العالية. هذه النماذج الدرامية، التي وردت فيها قصص مؤثرة، لا تُنسى، حسب قول أرسطو، حيث يعتبر أن "التراجيديا تطهّر القلوب، عبر الشعور بالشفقة والرعب. إنّها تجعلنا نقبل آلامنا ومخاوفنا عندما نشاهد البطل يتحمّل آلامه بكلِّ نبل وشجاعة".
يُمكن رؤية هذا التأثير في شخصية أوديب، الذي حاول بكل جهده تحدي مصيره وتجنب تحقيقه، لكن في النهاية، هزمته قضاياه رغم محاولاته اليائسة. وها هي شخصية أنتيجوني التي كانت تروّج لضرورة احترام القانون الإلهي، الذي يتميز بالعدل. كانت تؤكد أنه لا يمكن احترام أي قانون بشري يتنافى مع قوانين الله على الأرض. اشتهر هذا النوع من المسرحيات على يد أمهر المسرحين أمثال أسخيلوس، أرستوفانيس، سوفوكليس، إوريبيدس.
ويعد أسخيلوس، الرائد التراجيدي، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، يعد واحداً من روّاد كتّاب المسرح اليونانيين البارزين. أما أرستوفانيس، فقد دمج في أعماله الكوميدية الفكاهية عناصر الفلسفة والنقد الاجتماعي، مما أضاف عمقاً وتعقيداً إلى عالم الكوميديا اليونانية. في هذا السياق، اشتهر سوفوكليس برسم صور معقدة للصراعات الأخلاقيّة والسياسيّة، حيث كان يركز بشكل خاص على تأثير الأفعال الفردية على النسيج الاجتماعي والقدر. وأخيراً، إوريبيدس، التراجيدي الرومانسي، الذي عاش في الفترة ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، قدّم نمطاً درامياً مبتكراً. اشتهر بمسرحياته الرومانسيَّة والشاعريَّة التي أضفت للمشهد الثقافي اليوناني لمسة جديدة ومثيرة. فهولاء الكتّاب الموهوبين ركبوا سفينة المسرح اليوناني، وأبحروا في أعماق التاريخ والإنسانيَّة، قدّموا للعالم رؤى فريدة وعميقة، وصاغوا مسرحيات لا تزال تحمل بصماتهم حتى يومنا هذا. إنَّ إرثهم الدرامي يتجاوز حدود التسلية ليكون مرآة تعكس تجارب البشر وتحدياتهم، وهو إرث لا يزال حيَّاً وملهماً للأجيال اللاحقة.