هل يمكن أن تنجح المصالحة في العراق ؟
آراء
2019/05/20
+A
-A
زهير كاظم عبود
لنكن صريحين حين نقول أننا لم نزل تحكمنا عقلية الاتهام ، وتقيدنا صور الكراهية والانتقام والتشفي ، ولم نزل نتبادل الاتهامات ، وسنبقى مالم نعمل ونسعى لنشر ثقافة التسامح ونسيان الماضي ، وفتح الصفحات الجديدة التي تتطلب منا جميعا التكاتف والمساندة الفعالة لبناء كيان الدولة التي يتساوى بها الجميع ، والحريصة على الحقوق والحريات ، والضامنة للأمن والحرية والكرامة .
بقي مشروع المصالحة الوطنية في العراق يراوح في مكانه إن لم يتراجع إلى الوراء ، ولعل إهمال وتجاوز الشروط والموجبات الأساسية التي تشترطها المرحلة الانتقالية من بين أهم الأسباب التي أدت إلى عدم إنجاح المشروع ، كما أن قيودا سياسية وأفكارا تفرضها أحزاب وجهات سياسية وشخصيات لا تخدم هذا المشروع وتقيده ، بل تم استخدام أسم المصالحة الوطنية واجهة وعنواناً سياسيا من دون أي نتاج فعلي أو عملي يجسدان حقيقة الأيمان بهذا المشروع ، وتم إنفاق مبالغ خيالية تحت هذا العنوان من دون أن يستثمر أهل العراق خطوة واحدة تساند الوصول إلى تحقيق المصالحة .
نحن بحاجة إلى اتخاذ قرارات جريئة وصادقة وهادفة لإعادة الثقة بين العراقيين ، ثمة أعداد لا يستهان بها تعاني من ظروف الحياة في بلدان مجاورة ، وثمة أعداد أخرى تغربت وابتعدت عن أهلها خشية من قيود سياسية أو إجراءات غير قانونية .
أن التحرر من ثقافة الانتقام ونبذ الآخر تتطلب خطوات وقرارات عملية تمهد لتبادل الثقة والاطمئنان لدى الآخر ، ولنتذكر جيدا بأن مؤتمرات المعارضة العراقية ضد النظام الدكتاتوري كانت جميعها تؤكد على قضية المصالحة الوطنية ، والتي لم تحقق نجاحا لها في العراق في حين نجحت في إقليم كردستان العراق ، إذ لم يتم القضاء على الظواهر التي تؤثر سلبا على انتصار مفهوم التسامح وقيم المحبة ، في حين استقر العمل بها وانتهت صفحتها في الإقليم .
ويشكل نجاح مشروع المصالحة الوطنية نجاحا لمفهوم السلم الأهلي ، وخطوة تمهد للقضاء على الفساد والخراب الاجتماعي ، وتحقيقا لنبذ العنف والمناهج العنصرية والطائفية والتكفيرية والإرهابية التي حظرها الدستور ونبذتها الإنسانية ، كما أن نجاح المصالحة الوطنية يجسد مفهوم المساواة أمام القانون بين كل المواطنين مادام حق الحياة والأمن والحرية مكفولا بالإضافة إلى كفالة حرية الفكر والضمير والعقيدة ، ويشكل أيضا ركيزة من ركائز بناء الدولة المدنية .
ثقافة التسامح ليست مجرد كلمات أو عبارات يتم اعتمادها ضمن الشعارات والخطابات والكتب الرسمية والمؤتمرات ، إنما تعني ثقافة يتم اعتمادها فعليا وتطبيقها عمليا ، والأيمان بها كمفهوم ، وتلك القضايا لايمكن تطبيقها مالم يؤمن المجتمع بها ، بالترفع عن تطبيق الانتقام ورد الإساءة والملاحقة ، عملية الأيمان بثقافة التسامح تدلل على ارتفاع بالنفس عن تلك الممارسات ، واعتماد السلوك الحضاري والراقي في إنهاء الخلافات والصراعات بالرغم من القدرة على خلاف ذلك ، ولذلك شكلت ثقافة التسامح طريقا من طرق إحلال السلام والوئام في المجتمع ، ووسيلة من وسائل التطبيق الفعلي للمبادئ الديمقراطية ، وسلوكا حضاريا رفيعا وإنسانيا نبيلا لتأسيس وبناء مجتمع يستند على ركائز أساسية متينة .
تسجل التجارب الإنسانية تنوعا في تطبيق ومفهوم ثقافة التسامح ، وهذا التنوع يتناسب مع حجم الثقافة العامة والإدراك وقبول الآخر والتطلع نحو أسس البناء للمستقبل ، كما يتناسب مع النظرة الإنسانية والحضارية التي يعتمدها المجتمع ، والعمل على زيادة وعي المجتمع ودعم قيم المحبة والتسامح والسمو للارتقاء بالمجتمع باتجاه الأيمان والقبول بالمصالحة .
وإذا كانت التطبيقات الحديثة للتسامح تشير إلى تطبيقه قبل أكثر من 500 عام ضمن ظروف سادت في أوروبا نتيجة الصراعات الدينية ، فأن الديانات التي حلت على البشر جميعها نادت بتطبيق ثقافة التسامح كجزء أساس ومهم من مبادئ تلك الشرائع والديانات ، ولأنه يشكل قيمة ثقافية وفكرية فقد نصت عليها تلك الأديان والحركات الإصلاحية في نصوصها المقدسة أو تعاليمها .
ولعل الأمم المتحدة وجدت في ثقافة التسامح حلا جذريا ووسيلة للتعايش والانسجام بين المجتمعات وخصوصا الخارجة من الصراعات والحروب ، أو الواقعة تحت الظلم والمسلوبة الإرادة والحقوق ، مما دعاها إلى تضمين لائحة حقوق الإنسان والمبادئ الأساسية للحقوق تلك المقررات والأسس ، في قبول التنوع الديني والقومي والفكري الذي تعيش فيه المجتمعات واحترام هذا التنوع ، واعتماد ثقافة قبول الآخر والتسامح كمفاتيح لبداية حياة جديدة يتم اعتماد التسامح فيها كشرط أساس للبناء الصحيح .
التطبيق الفعلي والعملي لثقافة التسامح لايتم بقانون أو أوامر ، مالم يقترن بأيمان حقيقي وشجاعة في الخطوات وتناسي الجراح ، حتى يمكن أن نعبد طريق التمهيد للمصالحة ، هذا الأيمان يعبر عن سمو نفسي وروحي على الأخطاء وتجاوز الخطايا والذنوب ، كما يعبر عن نبل وتفان في قبول الأخر من اجل فتح جديد لحياة جديدة تجمع الكل ليعم الانسجام والوئام من اجل وطن متعاف ، والتخفيف من معاناة الناس ، وإسقاط كل السلبيات التي ترتبط ارتباطا قويا بالتهميش أو الإلغاء أو الملاحقة أو الانتقام أو المنع أو التخوين والاتهام .
تحقيق المصالحة الوطنية يحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني ، ويشكل جدارا للتصدي لكل عمليات الإخلال بالأمن وحماية الناس من العمليات الإرهابية والإجرامية ، كما يسهم في الإسراع بعملية البناء والاستثمار وتطور الحياة السياسية باعتماد الديمقراطية وثقافة التعدد ، فتنعكس ايجابيا على كل مرافق الحياة العراقية ، وتبرز معالم النقاط الايجابية في توفير الفرص للجميع للمشاركة ليس فقط في المشاركة السياسية ، بل في حماية العراق واستقراره ، على أن نستفيد من كل التجارب الإنسانية في هذا المجال ، بما فيها تجربة إقليم كردستان العراق لما لها من انعكاسات ايجابية على واقع الحياة ، ولما أظهرت من نقاط ايجابية وعقلانية في توفير فرص ضمان الحقوق و الحريات والنظرة إلى المستقبل .
وبعد مرور أكثر من خمس عشرة سنة على إزاحة السلطة الدكتاتورية عن صدر العراق ، وبعد إخفاق مرير وملموس في تطبيق ثقافة التسامح والسلام الأهلي والمحبة والتآخي بين العراقيين على اختلاف قومياتهم وأديانهم وعقائدهم ، نرى أن الإقتداء بتلك التجربة لا يشكل نقيصة أو مثلبة في العمل السياسي ، فالتجارب حري بها أن يتعلم منها الآخر ، وأن نستفيد منها في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إليها ، وهذه التجربة لم تكن على سبيل الدعاية الإعلامية ، إنما دلت التجربة الرائدة ليس فقط على السلوك الحضاري ، وإنما عمليا الاستفادة من الزمن والإنسان في عملية البناء ، أن توفير الظروف الملائمة لتطبيق التسامح تعتمد على القيم المشتركة وعلى الأيمان بتلك القيم ، ومن خلال التطبيق الفعلي والعملي لمبادئ حقوق الإنسان ، والاستفادة من تجارب الآخرين .
ويشكل ملف المصالحة الوطنية السبيل الوحيد والأخير لإنقاذ العراق من التدهور الحاصل بشرط ألايكون للمصالح السياسية الضيقة والمفاهيم البعيدة عن التصالح والتسامح دور في العمل ضمن هذا المشروع المهم ، باعتماد الحوار الصادق والجدي مع كل الجهات السياسية المخالفة للعملية السياسية والحكومة ، هذا الحوار يستند ويقوم على أرضية تعميق روح الثقة والطمأنينة لدى الطرف الآخر ، على أن تكون الشفافية والحياد يشكلان القاعدة التي يتم بناء المصالحة عليهما .