بلد المتناقضات.. الانكسارات.. الانتصارات

آراء 2019/05/20
...

أ . د . علي يوسف الشكري 
ورد في الأثر أن دوام الحال من المحال ، فالتاريخ لم يحدثنا عن إمبراطورية أو دولة أو كيان ولد كبيراً وظل محتفظاً بصدارته وريادته ، وإلا فإن ذلك مدعاة للسكون والركون إلى الهدوء ، والتاريخ مليء بالولادات والتصدر ثم التراجع والأفول ، وبروز القادم الجديد ، وعلى العملاق المتراجع رفع القبعة للمتصدر الجديد والتسليم بالواقع ، فلكل مجتهد نصيب .
ولدنا ونحن نعيش بين متناقضين ، لا أحد يصف العراق إلا بالعملاق ، الجميع يتغنى بسمو العراق ، وغنى العراق ، وموقع العراق ، وقوة العراق ، وحب العراق ، وعِلم العراق ، وطب العراق ، ومدن العراق وعمارة العراق .. وجل العراق يبحث عن وطن بديل ، العالِم مضطهد ، والأديب ملاحق ، والشاعر مقيد ، والوطني مطارد ، والغني خائف ، والفقير يأّن ، والسجان مأمور ، والسجين مكبل من دون جرم .. الجميع مضطهد يبحث عن البديل .
 وظل سر هذا التناقض يأرق النفس ويشغل العقل ويجهد الفكر ، وظل السر لغزاً ، لا احد يجرؤ أو يتجرأ على البوح به لليافع الذي اختلطت عليه الأمور ، واختلت لديه الموازين ، لا يعلم أيهم يجهل وأيهم يعلم وأيهم يكتم وأيهم يتستر ، فالجميع عنده عالمٌ يخفي ، والكل لديه جاهل لا يفقه ، لا أحد يجرؤ على الحديث بما جال ويجول في النفس ، لا شجاع في العراق لان الجميع خائف من قول الحق ، لا خائف في العراق ، فالكل يتحدث بين الجدران المغلقة ، والأبواب الموصدة .
 
كل مَنَ في العر اق كان يعيش الصراع ، إن لم يكن مع الآخر فمع النفس ، الحاكم ووعاظوه يلاحقون المعارض ، والمعارض يستهدف الحاكم . ومن تجنب مواجهة الآخر راح يصارع ذاته ، فليس يسيرا على حامل المبدأ أن يجاهر بغير ما يكتم . وفي خضم الأزمة راح اليافع يتأمل أين الحق وأين الباطل ؟ أين العملاق المتألق ؟ أين التاريخ وأين الحاضر ؟ وهل المستقبل موجود ؟ ويقيناً يأتي الرد ، أن العراق تاريخ وحاضرة ومستقبل ، ليس الفقر دليل الضعف ، وكذا التهجير والتقتيل ، وليس في الجهل والمرض من بأس ، فكل البلدان مبتلية بهذه الآفات ، الفقير من البلدان أضحت لديها هذه الآفات مزمنة ، والغني الكبير القوي لا يخلو منها ، فليس عيبا أن يعاني العراقي مما يعانيه الآخرون ، وإن كان غنياً وشعبه حي وجيشه قوي وحاضنته العلمية تخرج الأجيال تترا حتى راحوا يملؤون الحواضر المتقدمة . 
ووسط هذا التناقض راح الناضج يبحث عن الكلمات التي تجمل الواقع المتردي ، ويختلق الأسباب والأعذار ليثبت لمن اختلط عليه الأمر أن العراق قوي معافى !! ليس سعياً وراء التضليل ولكن بالقطع تجنباً لمواجهة الجبار المستبد ، ثم اعتزازا بالوطن الذي أحتضن وأوى وأَنَ وصبر ، وولّد وخرَّج ، ..... وكان منبع فخر لحامل جنسيته ، أنت عراقي أنت مُقّدر ، أنت عراقي أنت مُقَدم ، أنت عراقي أنت غني ، أنت عراقي أنت عالِم ، أنت عراقي أنت كريم ، أنت عراقي أنت غيور ، أنت عراقي أنت شجاع ..... وهل لغير العراق ترفع القبعات ؟ وهل لغيره ينحني الكبار ، ويجري الصغار والباحثون عن القوي الحامي أو الغني المقدم .
وهل حوت أرض أجساداً طاهرة مثلما حوت أرض العراق ، فالعراق بلد سيدنا إبراهيم ، وبين جنابته ضمت رفات سيدنا ادم ونوح وهود وصالح ، وكانت ولما تزل أرض العراق تتشرف بالأجساد الطاهرة التي ما حوت أرض مثلها فقط ، فهل مثل علي والحسين والكاظم والجواد والعسكري والهادي " عليهم السلام " حوت أرض ، أليس في أرض حوت النعمان وعبد القادر مصدر فخر وعز ورفعة شأن ؟ 
وهل مثل أرض العراق تشرفت بلاد ، بأن درّست وخرّجت ورفدت وقدمت ، فالطوسي في العراق والمفيد في العراق ، والصدر في العراق ، والحكيم في العرق ، والخوئي في العراق ، والسيستاني في العراق ، وسلالة الألف سنة من عمر المرجعية الديني العليا في العراق . أليس من حق اليافع أن يتساءل لماذا تشرفت بلد بمثل هذه الأسماء ؟ ولماذا اضطهدتهم ؟ هل العيب في الحاضنة أم القائم على أمرها ؟ ويزداد اللغز غموضاً ! يقيناً أن الحاضنة السيئة لا تحوي هذه السلالة المتصلة من العلماء والحكماء والفقهاء ، وليس لبلد ولدت فيه سلالة هُداة الناس ، والحاكم الظالم فيها مترف متنعم .
من اعتلت صحته قصد العراق ، فلا طب مثل طب العراق ، وكل أبناء العراق يقصدون دول الجوار والعالم طلباً للتطبيب !! من استقلت بلاده حديثاً راح يقصد العراق للتمثل بعمارته وريادته وأصالته وحداثته ، والمبنى فيه قديم آيل للانهيار ، والرصيف ضيق متآكل ، والشارع مغبر مترب ، لا مبنى تراثيا قائما ، ولا جديدا يتمثل بالعالم ، وكل العالم يتطلع إلى عمارة العراق وأصالته !!!
من أراد الرصانة في العلم قصد العراق وتتلمذ على كبار أساتذتها ، وأبناء العراق راحوا يستجدون حافات العلم ممن شحت عليهم العلوم ، ليس بسبب الندرة الرصينة غالباً ، ولكن رغبة في اقتناء شهادة الأجنبي وإن ضعفت !! ومن قصد العالم والجوار فقد الثقة بحاضنة العلم التي خرجت ورفدت وقدمت كبار العلماء والمفكرين والخبراء والحكماء !!
أرث العالم التاريخي تجسد في أرض العراق ، وهل خلق الله مثل بابل والزقورة وأور والنمرود ونينوى وأوروك وسامراء ...... وأبناء العراق يتجولون في المتاحف العالمية والمواقع الأثرية بحثا عن التراث والأصالة والتاريخ ، كيف لا ولم تُهمل بقعة في أرض العراق مثلما أهملت البقعة الأثرية ،  وشح المتحف في العراق وكأن سبة ولعنة ستلحق بالبلاد إذا أقيمت المتاحف التي تؤرشف لعمق العراق وأرث العراق وتاريخ العراق !!!
تغنى العراقي بحميدات الصفات ، فالدين في العراق والنزاهة في العراق ، والحشمة  في العراق ، تجارة السلاح محرمة ، ونقل وتداول الآثار مجرم ، وكل ما يسيء للذوق العام والأخلاق والآداب محظور !! وفي العراق كبار الفاسدين الذين أتوا على تاريخ أمة وسمعة شعب ، ليس أكثر انتشاراً اليوم في العراق من تجارة مذهبات العقل بعلم الدولة وأحيانا بحماية بعض متصديها ، تصدر العراق جيرانه ودول الإقليم في تجارة السلاح المنفلت ، ليس أبخس ثمناً من الآثار العراقية التي راحت تجارة سائغة لمن خان العراق وتاريخه . أما مذهبات العقل فقد وجدت في السوق العراقية رواجاً وتداولاً وانتشاراً لم تجده في بلاد الغير ، ويقال عنها   محظورة .
الإسلام السياسي في العراق صال وجال ولما يزل وخاض تجربة الحكم واخفق ، البعث قوي متحكم وإن كان محظورا مجرما ، الماركسي راح يحالف من كَفّره وهاجمه وأفَلّ نجمه ، وليس للقومي وجود بعد أن أتى التغني بها على الأمة وتاريخها ، الجميع يهاجم  ويتهم الآخر بالخيانة والتواطؤ والتجسس ، والجميع لا يخرج عن كونه شرقي الهوى أو غربيه ، الأجنبي لديه مقدم مقدر ، الركوع والتذلل راحت شيمة عند الساسة ، والكل يدعي الكبرياء والاستقلال في القرار ، وسياط الأجنبي طبعت على ظهره !!
لغزٌ ارض العراق ، وشعب العراق ، وساسة العراق ، وماء العراق ، وهواء العراق ، حوت أرض العراق الغث والسمين ، وليس أعظم من شعب العراق ، مثلما فيه من خان وغدر وتحكم ، فيه من شيد وبنى وعَلَمَ وتفقه وأبتكر وأبدع . علم ساسة العراق العالم مبادئ الحكم والإدارة ، وتسلط على مقدراته الطارئ على السياسة الداخل لأروقتها من بوابة الإرهاب . ليس أعذب من ماء العراق ، وليس أكثر منه ملوحة حتى قتل شعبه ، هواؤه طب وتطبيب ، وفيه التلوث والمرض والوباء . 
وهل أكثر تناقضاً من ارض العراق ، عجيب أمرك العراق ، تزهو وتزدهر وتتألق ، ويأفل نجمك دون عناء ، السر في الأرض أم في الشعب أم فيمن تلاعب بمقدراته  ، كي يُخضع العزيز القوي القادر العالم المتفقه ، ويقيناً أن العيب في من تحكم بمقدرات أمة وشعب وأرض ، لكن العيب الأكبر في من قدّر ومكن وأوصل ولما يزل ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . لكن لعنة العراق قادمة لا محال على من تآمر على أمن العراق وشعب العراق وأرض العراق ، فالخائن زائل والعراق قائم ، الكبير كبير وإن جارت عليه الظروف وتلاقفته الأهوال ، وتوالت عليه الملمات ، فتاريخ العراق سلسلة من الانكسارات والانتصارات ، أرث من الحضارات والمدنيات ، يأفل نجمه وما يلبث أن يسطع ، لكنه باق وأعمار الطغاة قصار . العراق قادم لا محال وعلى من باع وخان وتأمر أن يغادر إلى حيث أسياده الخونة الذين أمتطوه . فالتاريخ سَجّل لكل موقفه واصطفافه وعمله ، فللمجتهد نصيب وللمتخاذل الخزي والخذلان .