الكتابةُ عن الحزن.. العنصرُ المفضّل لدى المبدعين
رحيم رزاق الجبوري
يقول أحد الممثلين في أحد حواراته: "إن الاشتغال في جوانب الحزن وإظهار المعاناة والعوز والظلم؛ من الأمور التي يجيدها. ويستطيع بسهولة أن يجذب المتلقي ويتفاعل معه إلى حد البكاء والتأثر. لكنه يجد صعوبة بالغة في إضحاكه؟". وهنا تبرز أسئلة كثيرة في هذا الصدد. لمَ تتسيّد الكثير من الأفلام والروايات والحكايات والقصص والمسلسلات التي تتناول مفهوم الحزن بتفصيلاته المتعددة؛ الحقول الإبداعية للكتاب؟ فهل يرتبط هذا النمط بما يعيشه الكاتب والمجتمع على حد سواء؟ أم أن التطرق إلى جوانب الاضطهاد والفقر والفاقة والموت؛ هي من تجذب الناس للمشاهدة والقراءة؛ كونها ترتبط بتعرضهم لحالات البؤس والحرمان ومعاناتهم جراء الحروب المتناسلة التي قضت على الأخضر واليابس، وجعلت من الكاتب ينغمس في توثيق هذه المآسي التي تفتك بالبشرية وتصدر قصصا لا مثيل لها.
عوامل نفسيَّة
يرى الناقد عبد المجيد بَطالي من المغرب، أن للعوامل النفسية والاجتماعية أثرها العميق في النفس الإنسانية وعلى المشاعر والعواطف؛ مما ينعكس على الواقع والأفعال والسلوك والتواصل والتخاطب والكتابة. وإن هذا المخاض من الانفعالات النفسية والسلوكية، يتولد عنه التعبير بالكتابة الإبداعية شعرا أو سردا أو تمثيلا مسرحيا، كما تحمله لنا (التراجيديا) باعتبارها تنفيسا عن كومة ضخمة من المعاناة والاعتصار النفسي من شدة الألم والتوجع. فما أكثر الجراحات المؤلمة في زمن كلَيْلٍ حالكٍ إذا أخرج فيه المرء يده لم يكد يراها من الظلم والجور وفساد الأخلاق، وذهاب القيم التي تؤسس وتبني الإنسان فكرا وثقافة وكيانا مجتمعيا متراصا وسويا". ويضيف: "ليست الأحزان دوما مصدرا لتفتُّق قريحة المبدع، وإلا تمنى كل مبدع أن تكون أيامه كلها كروبا ولواعج وفجائع، وهذا لا يمت بصلة إلى أن يكون الحزن مصدرا للإبداع، وإلا ماذا عن شعراء الطبيعة وشعراء الغزل والحب العذري وغيرهم. فالإبداع إحساس بالجمال وتعبير عن مكنونات النفس ليس بالضرورة أن يعود منبعه إلى الكرب والهم لاستدرار المشاعر".
جذور الحزن
ويقول د. إبراهيم العلاف (أستاذ التاريخ الحديث المتمرس في جامعة الموصل): "نحن نعيش ولفترات طويلة أجواء من الحزن واجترار المشاعر ومعاناة الألم. وما شهده العراق من نكبات وغزوات وأوبئة وأمراض ومجاعات وحروب. ينعكس على فنون الكتابة بمجملها. ويضيف: "إن بيئة العراق صيفا وشتاء، صعبة، ونهرا دجلة والفرات كانا يفيضان في أوقات لا يحتاجهما الفلاح، وبعكس ما هو موجود مثلا في مصر فنهر النيل يفيض في أوقات يحتاجها الفلاح لهذا كان المصريون يكافئون النيل بأجمل ما لديهم من فتيات، ويعبرون عن ذلك بالاحتفال بعيد شم النسيم وإلقاء الورود والزهور في النيل. وهذا انعكس على كتاباتهم. أما الفرد العراقي، بفعل ما ذُكِر سلفا أصبح حزينا يعاني الألم وحتى عندما يضحك ويتراجع ويقول: "اللهم خير لعل مصيبة ستقع بعد هذه الضحكة". وكذلك في أمثالنا الشعبية المثل العراقي ينصح الإنسان بأن يسير وراء من يبكيه. ومع أن العراقيين يعتقدون أن هذا الحزن ارتبط ارتباطا وثيقا باستشهاد الإمام الحسين (ع) إلا أن هناك ما يدل على وجود رقم طينية فيها رسوم لنائحات مما يدل على أن حالة الحزن في العراق عريقة ومتجذرة؛ لهذا أصبحت الكتابة عن الحزن شيئا مألوفا ومتناسلا".
الحقيقة الجادة
رؤيا رؤوف (فنانة تشكيلية) تشير بالقول إلى: "إن من الأشياء الجادة في الحياة هو الحزن. وفلسفتي تتلخص بجماله. فالكتابة فيه جمال. والفن عموما جميل بكل ألوانه سواء كانت أفلاما جادة أو دراما حزينة أو مسرحا جادا. وعن نفسي فأنا أرسم الحزن، وكل أعمالي فيها نكهته. وأحبه لأني أرى فيه الحقيقة الجادة".
مصدرٌ رئيس
الكاتب والمترجم يوسف شواني، يؤكد أن تزايد صعوبات الحياة يوما بعد آخر، وفي عالم تتفوق فيه الحرب على الحب والحزن على السعادة والفقر على الثراء والألم على الراحة، فمعظم الناس يميلون إلى الكآبة ويحاولون أن يتشبثوا بالحياة رغما عنهم ويعيشون في أجواء لا تلائم أهدافهم واستحقاقهم؛ لكن ذلك يؤدي إلى تغييرات جذرية في رؤاهم وتفكيرهم وأسلوب كتابتهم أيضا. ولهذا يعد الحزن مصدرا رئيسا من مصادر استلهام الكاتب لكتابة نصوصه، كونه جزءا من هذه المجتمعات البائسة منذ الأزل. وهو الناطق الرسمي لهم وحامل رايتهم والمجسد لإحباطاتهم. والمؤلف الذي لا يعبّر عن معاناة أفراده لا يعد إنسانا؛ لا سيما إنه يرفد نصوصه بما يؤول إليه مشاعرهم ويروي أفكاره بدموع الأطفال والأمهات وقصص الحب التي تنقطع خيوطها قبل النهاية، فضلا عن الحزن العميق الذي يراود الكاتب نفسه بسبب بؤسه وتهميشه".
مشعل الإحساس
ويذهب عماد شختور (كاتب وروائي من فلسطين) بقوله: "إن الحزن هو مشعل الإحساس الذي يحرق كل هشيم القلب. فالحزن إحساس له جذور في القدم لطالما كان روح الإلهام وسر بلاغة الكلام". ويضيف: "لماذا الكتابة بحبر الحزن؛ لأنه أعمق، وأصدق فهو يلامس شغاف القلب، ويهدهد على كتف الروح، وهو صدى يتردد في بئر المشاعر حين تصرخ الجروح. ولطالما ترك من بعد رحيله الأثر، فتكلمت البلاغة في خيال كاتب وثارت القصائد في ضمير شاعر. كما قال نزار قباني: "إني أحبك عندما تبكينا.. وأحب وجهك غائما وحزينا (لماذا يا نزار) الحزن يصهرنا معا ويذيبنا.. من حيث لا أدري ولا تدرينا".
علاج
حسين علي رهيف (شاعر وكاتب) يتحدث عن الكتابة باعتبارها فضاء يشكّله الكاتب ليُعلّق فيه الحسرات على شكل كواكب مشعّة والدموع على شكل نجوم متناثرة، ويضيف: "الكتابة متنفّس نفسي له يبثّ خلاله أوجاع الفقد وآثار الحزن وصرخاته، ثمّ أن القارئ يجد في ما بعد عند قراءته للنصوص الحزينة سلوى لحزنه فأحزان الناس تتشابه، ولكن الكاتب يستطيع تحويلها إلى فضاءات إبداعية وقد لا يستطيع غيره التعبير عن شدّة حزنه إلا بالوسيلة المشتركة بين بني البشر وأقصد بالبكاء. وقد يجد القارئ في القراءة علاجا لبعض مشكلاته النفسية وهذا ما أشارت إليه الدراسات الحديثة باعتباره أحد أساليب مساعدة البشر في هذا المضمار".
تفريغ الشحنات الإنسانية
ويتحدث سعدي عبد الكريم (ناقد وسيناريست) عن تماثلُ الحزن والبثّ في الكتابة، قائلا: "تعدُّ اللحظة هي القاسم المشترك الأعظم بين الشعور الوجداني الحاضر، وعملية تفريغ تلك الشحنات الإنسانية على وجه الورق. فعملية الكتابة هي حالة التماثل الفضلى بين اللحظة الآنية المعاشة في الواقع، وشعور الكاتب إبان انفجار المأزومات، وتوزيعها على خارطة البثّ، وتعتمد هذه اللحظة البثّيّة على جملة من المعطيات التي تتكاتف مع جهد الباثّ في لحظات التدوين، فحالة الحزن مثلا معلم ملهم من معالم تفريغ الحالة الشعوريّة، لذا فهي من بين أفضل حالات التطهير الذاتي التي بثّها الكاتب، وهو يتتبع مجسّات حزنه وآلامه ويدوّنها على الورق، وهي مهمة ليست بالسهلة، بما تحمله من تبعات قاسية عليه، ربما تتعدى الواقع، لتبدأ المخيلة الإبداعية اشتغالاتها في تسطير إجراءات التساوق التوصيلي بين رسالة الكاتب والمتلقي، وبما أن الكاتب العراقي محمَّل بالكثير من بواعث الحزن، لذا نجده على مستوى التدوين هو الأكثر اشتغالا في هذا المضمار، فالشاعر مثلا هو الأقدر على بث حزنه والتعبير عنه بلغته وصوره الشعريّة وبمهارة تخيلية استثنائية، والروائي هو الأكثر وسعة من غيره للتعبير عن ذلك الألم والحزن الذي يعتريه، والكاتب المسرحي هو المعبر الأصيل عن المأساة، والموسيقي والفنان التشكيلي وغيرهم ممن تدور مدوناتهم في فلك الإبداع والمعرفة والذين يعبّرون عن آلامهم وأحزانهم بمهارة عالية".
رموزٌ حزينة
يحيى القيسي (كاتب وقاص)، يرى إن الحزن متجذّر بعمق في بعض المجتمعات منذ القدم وخاصة عند الشرقيين، ويضيف: "عندما يفيض نهرا دجلة والفرات في بلاد سومر بالعراق يجرف الماء المدن والبشر والحيوانات الداجنة مما يسبب ذلك حزنا وألما عميقين عند ساكني هذه المناطق، فتبدأ النساء بالنواح تعبيرا على حزنهن على هذا الفقد، حتى صارت مناسبات لذلك الحزن مما تنافس الشعراء في كل مرة لكتابة نشيد البكاء هذا، كذلك وجدت ألواح ومخطوطات تؤكد أن شعر الرثاء برز في العهد السومري في تصوير مشاهد الدمار وانهيار المدن وقسوة الحروب من خلال الرموز الحزينة التي أضفت على النصوص خصوصية ومنحها ثراءً فكريا وجماليا بلغة تصف هذه الأحداث بكل براعة، ومن خلال هذه الخبرة المتراكمة فلم يقتصر أدباء تلك الحقبة على هذا اللون فقط بل كتبوا عن التفاؤل والفرح والانتصارات وأجادوا فيه أيضا، فكل هذا النتاج الأدبي هو إفراز ذلك الحزن العميق وتلك التجربة المؤلمة، فكلما تألم الإنسان تعلّم ما ينفعه في حياته، لذلك يقول دوستويفسكي: "الألم والمعاناة أمران لا مفر منهما للوصول إلى ذكاء كبير وقلب عميق" فعندما حُكم بالإعدام وجاءه العفو الملكي في اللحظات الأخيرة، كتب أفضل رواياته ليغوص في أعماق النفس البشرية ويدهش الجميع، فالحزن يصقل القدرات على الكتابة ويجعل الكاتب متماهيا مع ذلك أكثر وقريب من ذاته أكثر فيتحرى الدقة في نقل هذا الإحساس إلى المتلقي ليصل إليه وكأنه هو من خاض هذه التجربة، وهنا يكمن الإبداع، كما تشير الكاتبة (بثينة العيسى) الى أن الكاتب البارع لا يكتب عن الحزن؛ بل يكتب الحزن نفسه أنه يكسر قلب قارئه ويدميه، والكاتب البارع لا يكتب عن الوحدة بل يخنق قارءه بها".