نيويورك: أ ف ب
بلغ التطورُ في مجال الذكاء الاصطناعي حداً أصبح فيه المتخصصون قادرين على تسخير تقنياته في جوانب حياتيَّة عدة، وصولاً إلى "إعادة الموتى للحياة" بشكلٍ افتراضي، فمن كان يتصور قبل سنوات أنَّه قد يأتي اليوم الذي يمكن للإنسان فيه أنْ يتابعَ الحديث مع أحد أحبائه الذي فقده باللجوء إلى تطبيقات تعتمد على الذكاء الاصطناعي؟
فبفضل تلك التطبيقات لا يفسح المجال للعودة لتسجيلات صوتيَّة تحافظ على ذكرى من رحلوا فحسب، بل يمكن الحفاظ على هذه الذكريات وإبقائها حيَّة عبر إقامة أحاديث معهم من خلال اتصالات افتراضيَّة تستند إلى ملفاتهم الشخصيَّة وصورهم، ولقطات فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي.
تطبيقات افتراضيَّة وأرباح
تعددت التطبيقات التي تستند إلى الذكاء الاصطناعي للتواصل مع الموتى بالاعتماد على مقاطع فيديو تفاعليَّة يظهر فيها المتوفى وهو يتواصل بطريقة حيَّة مع ذويه ويرد على أسئلتهم.
"هو يتفاعل، ويتنفس، ويرمش، كما لو كان حياً فعلاً"، وفق ما ذكر في تقرير نشر في صحيفة "نيويورك تايمز".
أما أجوبة المتوفي، فلا تكون من محض الخيال، بل هي أجوبة كان من الممكن أنْ يعطيها في حياته، بالاستناد إلى ردودٍ وبياناتٍ وآراءٍ له قبل وفاته.
حتى إنَّه ثمة شركات تقدم مثل هذه الخدمات معتمدة على هذه التطبيقات في مقابلات افتراضيَّة مع المتوفين يجيبون فيها عن أسئلة معينة.
وفق ما يوضحه المتخصص في التحول الرقمي فريد خليل، هناك بالفعل تطبيقات مماثلة تستند إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتعمل وفق مبدأ التزييف العميق أو "الاستنساخ الافتراضي" المشابه لما يحصل حالياً في عالم الموسيقى وغيره من المجالات.
إنما في هذه الحالة يطبق مبدأ "الاستنساخ" أو التزييف العميق على أحد المتوفين ويحصل ذلك بالصوت والصورة، هذا ما يولد وهماً لدى ذوي المتوفي الذين يتمسكون بمثل هذه الوسائل للحفاظ على ذكريات معينة للمتوفى، ولو بشكل وهمي أو افتراضي، من خلال التواصل معه بالصوت والصورة.
"يكفي أن يقدم ذوو المتوفين صوراً وفيديوهات وأصواتاً خاصة بهم، مما يسمح للتطبيقات باستنساخ الشكل عبر تقنيَّة التزييف العميق.
حتى إنَّ ذلك يسمح بالتواصل مع المتوفين ضمن أحداثٍ آنيَّة بفضل الذكاء الاصطناعي.
خلل في مراحل الحداد
تبدو تجربة مماثلة للوهلة الأولى فرصة مميزة لمن فقدوا شخصاً عزيزاً، لكنْ لا يمكن ألا يطرح فيها البعدين الأخلاقي والنفسي، خصوصاً أن للموت حرمته وهو جانب حساس لا يمكن التهاون فيه.
بالنسبة إلى ذوي المتوفى، هم قادرون بهذه الطريقة على الاستمرار بالتفاعل معه وإحياء ذكراه، لكنْ بالدرجة الأولى يعلم الكل أنَّ تقنيات الذكاء الاصطناعي ليست معصومة عن الخطأ، فعلى الرغم من التطور الحاصل في هذا المجال، لا يمكن أن تحل هذه التقنيات محل الإنسان.
لذلك يحذر خليل من مجال الخطأ هذا، أثناء التواصل افتراضياً مع المتوفى، فقد يتحدث المتوفى عندها بأسلوب لا يشبهه أبداً، أو أنه يبدو صادماً، خصوصاً عندما يعطي رأيه في قضايا مستفزة، مع ما لذلك من انعكاسات نفسيَّة في ذويه، ويعدُّ هذا خطراً بشكلٍ خاصٍ عندما يكون المعني هنا من الكتاب أو المفكرين، بالتالي هو وضعٌ غير سليمٍ من الناحيتين النفسيَّة والأخلاقيَّة، وإنْ كان بعضهم ينظر إلى إيجابياته لما تفسحه من مجال في التواصل مع شخصيات بارزة في التاريخ، ومن كانت لهم إنجازات، إذ يمكن عندها مناقشتهم في أيَّة قضيَّة آنيَّة.
من الناحية النفسيَّة، تولد هذه التطبيقات ارتباكاً في مراحل الحداد المعروفة التي فقدان شخص عزيز، فهذه المراحل الخمس تبدأ بالإنكار، يليه مرحلة الغضب والرفض لما حصل، ثم الاكتئاب والحزن الشديد على الفراق، وبعدها صيغة التسوية لتقبل ما حصل، وصولاً إلى مرحلة القبول للوفاة.
بشكل عام قد تستمر هذه المراحل خلال نحو ستة أشهر أو أكثر في حال فقدان أحد المقربين، لكن هذه المدة قد تزيد أو تنقص بحسب طريقة الوفاة ووقع الصدمة والعلاقة مع المتوفى.
مع تخطي هذه الصدمة، يكون الإنسان تخطى مرحلة الحداد وتقبل الواقع، لكن لا تنكر الاختصاصيَّة في المعالجة النفسيَّة جيزال نادر أنه ثمة أشخاص يعجزون عن تخطيها ويبقون عالقين في إحدى مراحلها، وربما يتوقفون عند مرحلة الإنكار مثلاً في حال عدم تقبل فكرة الرحيل، وتوقع عودة المتوفى، ورفض هذا الواقع.
الوعي في استخدام الذكاء الاصطناعي
تعدُّ المصالحة مع فكرة الوفاة أمراً صحياً ومرحلة لا بُدَّ من بلوغها، وإلا فقد تساعد المعالجة النفسيَّة في متابعة الحياة في حالات معينة عندما تزيد الصعوبات لدى فقدان شخصٍ عزيز.
لا بُدَّ من المرور بمختلف مراحل الحداد بشكلٍ سليمٍ لتخطيها.
هذا ما تؤكده الاختصاصيَّة في المعالجة النفسيَّة شارلوت خليل، مشيرة إلى أهميَّة تخطي المراحل كافة، إلا أنَّ وجود مثل هذه التطبيقات قد يطيل هذه الفترة، ويزيد صعوبة بلوغ مرحلة تقبل الوفاة وفكرة الموت، وهو ما يثير القلق في شأن التطبيقات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي التي تدعي "إحياء الأموات" فتمنع ذوي المتوفى من متابعة الحياة وتخطي ما حصل، إذ يعيشون معها في وهم، مع ما لذلك من أخطار لا يمكن الاستهانة بها في مسار الحداد بمختلف مراحله.
وأضاف "بشكل عام تسبب هذه الأدوات نوعاً من الارتباك لدى ذوي المتوفي، وتمنعهم من قبول هذه المسيرة الطبيعيَّة للحياة وصولاً إلى الموت".
ومضت في حديثها "قد يؤدي التفاعل مع نسخة افتراضيَّة إلى خلل في العلاقات الإنسانيَّة في ظل هذا الوهم، ومعها ربما يحصل خلل على مستوى عجلة الحياة الطبيعيَّة وفكرة أن الموت سنة الحياة".