سرياليَّة الحب المجنون
كامل عويد العامري
الحب المجنون: قصة كتبها أندريه بريتون بين عامي 1934 و1936، ونشرت في عام 1937. وبهذا العمل يختتم ثلاثية بدأها بنادجا (1928) ثم (الأواني المستطرقة 1932)، والتي تركزت على إشكالية السيرة الذاتيّة واكتشاف “المصادفة الموضوعية”، وتميزت بإدخال الصور. في رسالة إلى جان بولهان بتاريخ 2 ديسمبر 1939، أعلن بريتون أنه يرغب في “توحيد الأعمال الثلاثة معا تحت غلاف واحد”.
يروي “الحب المجنون” التجارب والمصادفات التي قادته لمقابلة جاكلين لامبا، زوجته المستقبلية، مركز الثقل الحقيقي للقصة. يتكون الكتاب، الذي يبدو غير منظم، من أجزاء “خيالية”، وقصص أحلام، وفواصل سردية ممتزجة بالصور والقصائد. في هذا التشتت يظهر بالرغم من ذلك خيط مشترك في موضوعة الحب المكرسة لتحدي “الرأي السائد بأن الحب يبلى، مثل الماس، في غباره.” كاشفا النقاب عن روائع المواجهات اليومية والأعماق الخفية للأشياء العادية. يريد بريتون أن يردم الهوة بين الجسد والعقل، من خلال نقطة لقاء، أي الحب المجنون، لذلك فإن النصيحة الأخيرة الموجهة إلى ابنته، أوب، المولودة في نهاية ديسمبر 1935، هي: “أتمنى أن تكوني محبوبة بجنون”.
الحب المجنون، الذي نشر في عام 1937، هو رواية سير ذاتية كتبها أندريه بريتون استمرارا لرواية نادجا، التي نُشرت في عام 1928. هنا، يمزج أندريه بريتون بين قصص الحياة والأجواء والصور الفوتوغرافية لإثارة موضوعة الحب. ينقسم الكتاب إلى سبعة فصول.
الحب المجنون يبدأ بقصة خيالية غريبة. يجد أندريه بريتون بين محكمتين، واحدة مؤلفة من الرجال والأخرى مؤلفة من نساء، بأعداد متساوية. يبدأ المؤلف بالتالي تحليله للحب ويطور، في الفصل الأول، عدة مفاهيم وأفكار حول هذا الموضوع. يوضح، على سبيل المثال، أن حب كائن واحد هو نوع من الوهم مؤكدا على فكرة أن الناس لديهم « أنموذج « لرجل أو «أنموذج لامرأة.
لكن هذا الفصل يُستخدم بشكل أساسي لتطوير موضوعة «الجمال المتشنج»، والذي يرفضه بريتون بثلاثة أشكال. ينتهي الفصل في تأثيره على هذه الجملة: «الجمال المتشنج سيكون محجوباً جنسياً، أو مثقلاً، أو ثابتاً أو ظاهرياً أو لن يكون». توضح الصورة مفهوم الجمال «المتفجر الثابت».
يبدأ الفصل الثاني بهذه الجمل من استبيان كتبه بول إلوار وأندريه بريتون: «هل يمكنك أن تعلن عما هو اللقاء الأساسي في حياتك؟ - إلى أي هدف حققه لك هذا اللقاء، وهل حقق لك انطباعًا عما هو غير متوقع؟ وضروري؟ «.
يعلق بريتون في هذا الفصل على نجاح ونتائج هذا الاستبانة، والطريقة المستخدمة وعدد المشاركين، الذين لا يقومون بمسح مثمر للغاية، كما يعترف بذلك. ومن خلال التعليق على هذا الاستطلاع، يطور فكرة مهمة: فكرة المصادفة في اللقاء. وفي محاولة لتحديد هذه الفكرة، يقتبس من أرسطو، وكورنو، وإنجلز وفرويد. فيعرف أرسطو، على سبيل المثال، المصادفة بأنها “سبب عرضي لتأثيرات استثنائية أو ملحقة ترتدي مظهر الغاية أو الهدف”. في الواقع، يرى بريتون أنه يجب أن يؤدي التحقيق إلى معرفة “ما إذا كان اللقاء المنتقى من الذاكرة من بين جميع اللقاءات التي تأخذ شكلا خاصا فيما يتعلق بالوضع العاطفي، كان بالنسبة للذين يريدون وصفه، يشغل مكانا منذ البدء تحت علامة عفوية، غير محددة، وغير متوقعة أو حتى غير محتملة”. قد لا تلقي الاستبانة الضوء على هذه القضية، لكن أندريه بريتون يواصل تساؤله حول الطبيعة المصادفاتية تمامًا للقاء وحول «القاسم الموجود في ذهن الإنسان والذي لم يكن آخر سوى رغبته»، التي يمكن أن يكون لها تأثيرها عليه.
في الفصل الثالث، طور أندريه بريتون فكرة المصادفة هذه في اللقاء، ولكن من الرغبة بصفة خاصة التي تدفع إلى اللقاء أو تؤثر عليه، والتي لن تكون في النهاية محظوظة تمامًا. وهكذا، يشرح كيفية الحفاظ على «هذا التعطش للتجول ليلتقي بكل شيء، والذي أنا متأكد من أنه يبقيني في اتصال غامض مع الكائنات الأخرى المتاحة، كما لو كنا مدعوين للقاء على حين غرة». فضلا عن ذلك، يتحدث عن «الوصول إلى هدف بالترافق مع إرادتنا [...] إرادة إنسانية أخرى تقتصر على أن تكون مؤاتية لما نريد تحقيقه». ولتعميق هذه الفكرة يروي بريتون ذكرى المشي في سوق البراغيث مع صديقه جياكوميتي. وكلاهما، كانا يتجولان في السوق من دون معرفة عما يبحثان عنه، فيعثر كل واحد منهما على شيء، على لقية. يعثر بريتون على ملعقة خشبية ويعثر جياكوميتي على قناع. وبعد تأمل، توصل أندريه بريتون إلى استنتاج مفاده أن كلا منهما يريد امتلاك هذه الأشياء قبل العثور عليها، لأن هذه الأشياء تمثل تمثيلًا مجازيًا لرغبتهما، «تمويه فائق المادية». وفي ختام هذا الفصل الثالث، يتناول بريتون مفهوم غريزتين، هما الغريزة الجنسية وغريزة الموت.
ويعد الفصل الرابع قصة لقاء بين أندريه بريتون وشابة. فيحلل هذا اللقاء فيما بعد. مؤكدا على الطبيعة المزعجة للأحداث فور وقوعها، ويحاول أن يستنتج منها إبراز علاقة منطقية. يتحدث هنا عن «التأكيد المستمر، الذي يشمل الأحداث التي كان العقل سعيدًا بترتيبها والأحداث الفعلية - في تواز مستمر». ويروي قصة هذا اللقاء الذي عقد في باريس ثم يروي اللقاء الأول، وهو يمشي ليلًا في شوارع العاصمة والطريق الذي يسلكه. فيقاطع قصته ليتذكر نيته في تسليط الضوء على علاقة الواقع والخيال، وتزامنهما المستمر. تستمر قصته، ونحن هذه المرة بعد أيام قليلة من اللقاء.
في صباح ذلك اليوم، خطرت في باله قصيدة كتبها منذ بعض الوقت. وتسمى هذه القصيدة (عباد الشمس). ولما نقل ثانية هذه القصيدة في الكتاب، تنبأ بالضبط باللقاء الذي أشرنا اليه. فيتناول هذه القصيدة بيتا بيتا، ويجعلها تتزامن مع أحداث تلك الليلة. كان كل شيء متطابقا، مما اضطر أندريه بريتون إلى إعطاء قصيدته طابعا تنبئيا فيختتم الفصل بهذا الإيحاء: أصبحت الشابة التي قابلتها في ذلك اليوم زوجته. وبهذا يعطي مثالا يدعم نظريته حول المصادفة في اللقاء.
في الفصل الخامس، يروي أندريه بريتون رحلته إلى تينيريفي، الجزيرة الإسبانية في المحيط الأطلسي، وصعوده إلى قمة جبل تيد، ويروي بعض المشاهد هنا وهناك من حياته. تبدو القصة ليست قصة حقيقية، وإنما قصة خيالية إلى حد ما، بل تعيدنا عناصر القصة إلى الواقع. يتركز السرد أساسا على وصف المناظر الطبيعية والاستعارات التي يأتي بها الكاتب: فيكتب على سبيل المثال «يعود طاووس البحر الهائل يتبختر على جميع الشواطئ». هذه القصة هي أيضًا مناسبة لتقديم بعض الأفكار حول الحب وخصوصًا عن الحب الجنسي. فيقتبس، على سبيل المثال، من إنجلز الذي يصف الحب الجنسي الفردي بأنه «أعظم تقدم أخلاقي صنعه الإنسان»، وفرويد الذي يرى فيه بأنه قد «أسهم في تقدم الثقافة إلى حد كبير». لذلك فهو يستحضر فكرة «كفاية الحب» التي يدافع عنها بحماسة: «لا أمانع إن كان يجب أن يساء ذلك إلى الضحك والكلاب»، فـ «الترفيه، وإعادة تلوين العالم بشكل دائم في كائن واحد، بصيغة الحب التي يتكاملان فيها، يلقيان آلاف الأضواء في مقدمة مسيرة الأرض «منتقدا» النظر في الضرورة «المادية» و»النظم العقلانية». كما يمتدح المفاجأة: «يجب البحث عن المفاجأة لذاتها، دون قيد أو شرط»، كما يقول، وهو يدافع عن مبادئ السريالية. وهكذا يستأنف مفاهيم «المصادفة الموضوعية» والرغبة: «الرغبة، منبع البشرية الوحيد، الرغبة، الصرامة الوحيدة التي يجب على الإنسان معرفتها». يصف في قصته الرغبة التي يشعر بها هو بالذات إزاء رفيقته. فضلا عن ذلك، فهو يعترض على فكرة «تمثيل الحب على المدى الطويل كظاهرة متدهورة». وفي النهاية، يتبين أن هذا الفصل الذي يجمع بين السرد والذكريات والأفكار هو بمثابة اعتذار من الحب.
ويدور الفصل السادس حول تبدد الحب وصعوباته. يتحدث أندريه بريتون عن «تلك اللحظات الحالكة التي يرفرف فيها الحب بأجنحته فجأة ويسقط في قاع الهاوية من دون أن يلفت النظر». يروي بريتون رحلة إلى بريتاين قام بها مع صديقته في عام 1936. كلاهما يمشيان على الشاطئ، وفي تلك اللحظ، كانا يبتعدان أكثر فأكثر عن بعضهما البعض، حرفيًا ومجازيا. وعند عودته إلى منزل والديه، علم بريتون أن المنزل الذي كان على الشاطئ حيث كان يتجول هو وزوجته للتو لم يكن سوى مسرح لجريمة في قضية بحيرة لوخ، وهو المنزل الذي قتل فيه زوج زوجته. لقد أدرك بريتون في هذا المكان الملعون سبب هذه اللحظة من القطيعة مع زوجته. وهكذا، يوضح المؤلف أنه في بعض الأحيان ليس الحب الذي له صلة بالمصاعب، وإنما بالعوامل الخارجة عنه.
يختتم الفصل السابع، برسالة موجهة إلى Ecusette de Noireuil، الاسم الذي سمي به ابنته، التي تبلغ من العمر ثمانية أشهر. يكتب إليها وهو يفكر بأنها ربما ستقرأ كتابه، بعد أن يجتذبها عنوانه، وهي في السادسة عشرة من عمرها: “مهما كان حظك، سواء كنت محظوظة على نحو متزايد أو غير ذلك تمامًا، فأنا لا أعلم، إن كنت ستسعدين في العيش، وتتوقعين كل شيء من الحب”. يخبرها عن ولادتها وعما يمثله له، جنونه العظيم. يتحدث عن الحب كأجمل سبب للحياة. ثم يعود أيضًا إلى السياق التاريخي الذي تحدثت فيه هذه الرسالة، بشأن الحرب الإسبانية. أخيرًا، يختتم هذه الرسالة، وبالتالي الكتاب بهذه الجملة: “أتمنى أن تكوني محبوبة بجنون”.
هكذا ينتهي (الحب المجنون) لأندريه بريتون، مستوحيا قصة حبه مع والدة طفلته. كان بناؤها، محيّرا إلى حد ما، منسوجة من أفكار وقصص وصور فوتوغرافية، يذكرنا بمؤلفاته الأخرى مثل (نادجا) و (الأواني
المستطرقة).