الرمال تبتلعُ مدنَ الصومال الساحليَّة

بانوراما 2024/01/18
...

  محمد غابوب وليلى محمود
  ترجمة: مي اسماعيل

حين تؤدي إزالة الغابات والرياح العاتية إلى تفاقم الجفاف الناجم عن أزمة المناخ، تدفن الكثبان الرمليّة ميناء هوبيو (وسط شمال الصومال) الذي يعود تاريخه إلى القرون الوسطى. فهل تنقذ التعهدات بزراعة الصحراء عائلات شردتها الحرب بالفعل؟
يقف “حسين كارشي” في مدينة هوبيو الساحليّة قرب كثيب رملي أبيض يغطي بقايا المنزل ذي الغرفتين الذي بناه لأسرته خلال العام 1993. ولم تظهر منه سوى بعض الجذوع الخشبية البارزة من تحت الرمال وهي العلامة الوحيدة المرئية للمبنى الذي ولد فيه أطفاله الستة. عاش كارشي هناك نحو عشرين عاما، معيلا أسرته من بيع الماعز، لكن عواصف رملية قوية هبت بحلول العام 2011 غطت الأرض حول منزله. وتراكمت الرمال خلال العام التالي، وزحفت على الجدران الخارجية وانسابت إلى الغرف.
في البدء حاول كارشي إبعاد الرمال من خلال جرفها بكلتا يديه أو بمجرفة صغيرة، لكن جهوده باءت بالفشل.  وحينما أدرك أنّه لا يستطيع إيقاف هذه الكثبان من الرمال بمفرده، فتراجع عنها، إذ لم يكن بإمكانه إلا أن ينظر إلى الكميات المتراكمة منها المنسابة إلى داخل الغرف. وقرر بناء منزل جديد في مكان قريب، أملا في أن تقل شدة العواصف الرملية التي تضرب بانتظام ذلك الجزء من ساحل المحيط الهندي، وأن تقدم السلطات المحلية بعض الدعم للمتضررين.
غير إن الواقع المؤلم أنه لم يحدث أي من هذين الأمرين، وبعد ثلاث سنوات، غمرت الرمال المنزل الجديد الذي بناه تعويضا عما خسره في المنزل القديم، واضطرت الأسرة إلى الانتقال مرة أخرى. واليوم يعيش السبعيني كارشي (الفني السابق بالقوات الجوية) مع زوجته وبناته تحت خيمتين مصنوعتين من القماش وصفائح الكرتون وإطارات السيارات وخردوات أخرى.
يقود كارشي كل صباح قطيعه من الماعز بعيدا عن البحر بحثا عن المرعى، وقد يضطر أحيانا للسير يومين قبل العثور على أراضي خصبة.
دفعت ظروف الحياة القاسية كارشي إلى الانتقال من العاصمة الصومالية مقاديشو إلى ميناء هوبيو بعد إنهيار الحكومة المركزية مطلع العام 1991، آملا أن تكون المدينة (الواقعة قرب منطقة مداق وسط الصومال) ملاذاً آمناً من الحرب الأهلية التي مزقت أجزاء كبيرة من البلاد. ولم يكن هذا الراعي يتوقع أن أزمة المناخ ستقود لتهجير أسرته ثانية، وكان يشير أثناء حديثه إلى رمال تغطي أرضيات الغرف والتي تصل إلى عمق ركبة الانسان وسط رياح تعصف بشقوق السقف المعدني، قائلا: “يستسلم منزلي الثاني إلى الرمال، وهو كل ما تبقى لي بعد ثلاثة عقود في هوبيو، إذ فقدت كل شيء ولم يبق لي سوى الذكريات”.  

كومة أنقاض ليس إلا
أصبحت هوبيو (التي تأسست في القرن الثالث عشر خلال إمبراطورية آجوران) مركزا للقرصنة، وهو نشاط بلغ ذروته بحلول سنوات 2009-2010. ومنذ تراجع القرصنة، تحول الاهتمام من النشاط الإجرامي على طول الساحل إلى التدهور البيئي الذي غطى عموم المنطقة. رغم مساهمتها ما نسبته بأقل من واحد بالألف من الانبعاثات العالمية، لكن الصومال تعد واحدة من أكثر البلدان عرضة لتأثيرات أزمة المناخ على مستوى العالم. ويعتبر الجفاف والرياح القوية وتآكل التربة ليست سوى جزء من الآثار التي تفاقمت على مدى العقدين الماضيين مع اشتداد أزمة المناخ، مما تسبب بمعاناة شديدة بما فيها- الظروف المقاربة للمجاعة والنزوح الجماعي.
يقول سكان السواحل إنهم باتواعرضة أكثر مما مضى للعواصف الترابية التي طمرت المنازل والمتاجر والمدارس والمستشفيات. وفي هوبيو (التي يسكنها نحو 11 ألف شخص) دُفن مستشفى موّله مواطن صومالي تحت الرمال بعد عام واحد فقط من بنائه خلال العام 2018. وهناك مخاوف من أن مستشفى المدينة الرئيسي، الذي تتجمع الرمال حول جدرانه الخارجية بارتفاع نحو متر، سيواجه المصير نفسه بالدفن تحت الرمال المتحركة بسرعة، إذا لم تتخذ السلطات الصومالية أي إجراء قريب.
 يقول “محمد محمد” من منظمة الحفاظ الصومالية “غرين ووتش تراست- Greenwatch Trust”: “إن الرياح واحدة من العوامل التي أثرت على تغيُّر المناخ، ولو سألت مجتمعات السواحل فسيقولون إن الرياح باتت أقوى مما مضى، عند مقارنة شدتها بنحو ثلاثين سنة خلت، وان الرياح القوية كانت موجودة سابقا، لكنها الآن أقوى”. تمثل أسرة كارشي واحدة من نحو ستمئة عائلة (يقدر حجمها بنحو 3000 شخص) نزحوا بسبب زحف الرمال على امتداد 13 سنة بين العامي 2011 و2023، وفقا لمدير الشؤون الاجتماعية في هوبيو، “شريف شور” الذي يقول: “غمرت الرمال منزلي بالكامل في عام 2010”. تقول “منى عبدي أحمد”، وهي أرملة في السادسة والثلاثين وأم لستة أطفال: “حاولت أن أبني مسكنا لأطفالي على الارض التي ورثتها عن زوجي، أملا بتوفير مكان مناسب لهم، وقمت ببيع ماشيتي كلها لكي أتمكن من القيام ببناء المنزل، لكن العمل توقف فجأة بحلول العام 2021 بسبب ارتفاع الكثبان الرملية. والآن نقبع أنا وأطفالي تحت خيمة مؤقتة، والبيت الذي أردتُ بناءه لأطفالي لم يعد إلا كومة أنقاض تحت الرمال”.
ليست هوبيو هي المكان الوحيد الذي يعاني من هذا المصير، إذ تواجه مدن المنطقة الجنوبية الوسطى واقع الدفن البطيء بالرمال، بما فيها كل من: دينودا، وورشيخ، وكادال، وماساغاواي، وسيلدير، وهودلي، وهاراردير. يمضي “محمد محمد” من منظمة الحفاظ الصومالية قائلا: “فقدت كادال مدرستها الثانوية الوحيدة، إذ تغطي الرمال المدينة.. كنتُ هناك منذ شهور قليلة وتحدثت إلى زميل من باراوا، وكان لديهم نفس السيناريو”.  

التصحر وإزالة الغابات
يثير التحول المناخي مشكلة الرمال على امتداد اراضي جمهورية الصومال، كما يؤكد أعضاء منظمة الحفاظ الصومالية، قائلين: “إن التحول المناخي هو القضيّة الأساسية، فكلما ارتفعت درجة الحرارة العالمية نواجه تحديات بيئية، مثل الجفاف. واذا ما نال سكان المناطق الساحلية فرصة قليلة من بعض الأمطار المتساقطة، فلن يحدث تآكل في السواحل الرملية إلى هذا المستوى”. ويضيف “محمد محمد”: “ليس ثمة بُنية تحتية مناخية ذكية لتلك المناطق الساحلية، ولا تخطيط ولا تنظيم. لذا فإن كل تلك العوامل ستؤدي إلى فقدان هؤلاء الناس منازلهم ومنشآتهم الصحية ومراكزهم التعليمية”.
وكأن المصيبة لا تكفي الصوماليين حتى جاءت مشكلة الغابات فوق رؤوسهم، إذ تعد إزالة الغابات عاملا مساهما في التصحر، كما يتم استخدام الخشب لبناء المنازل والفحم لأغراض الطهي، ما يقود إلى تآكل التربة وإزالة حاجز الصد الذي كان يحمي المدينة سابقا من العواصف، كما يقول “شريف محمد علي” (44 عاما) الذي يعيش في هوبيو: “خلال عهد حكومة الرئيس الراحل “محمد سياد بري” كان قطع الأشجار يخضع لإجراءات منظمة، ولم يكن يُسمح الا لبعض الأفراد الذين يحملون الوثائق الحكومية الرسمية اللازمة بالمشاركة في قطع الأخشاب. ولكن بعد سقوط الحكومة المركزية في مطلع العام 1991 انهار القانون والنظام في البلاد، ما أفسح المجال لمستويات هائلة وغير منظمة من عمليات إزالة الغابات، وهي عمليات لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، إذ تشهد منطقة “ديمبال” التي تبعد نحو 35 كيلومتر عن هوبيو) أعمال ازالة مكثفة للغابات، فقد أُزيلت كافة الاشجار تقريبا وسُويت تماما بالأرض. وباتت المنطقة تعاني من سلبيات متعددة مضافة إلى موجات الجفاف التي أصبحت متقاربة التكرار”.

الاستسلام للرمال
تؤكد وزيرة البيئة والتغير المناخي الصومالية “خديجة محمد المخزومي” أن الوزارة تعي المخاوف التي أثارها دعاة حماية البيئة، وستزرع (بحلول نهاية عام 2024) نحو ثلاثين ألف شجرة، قائلة: “لمواجهة هذا الموضوع تخطط الحكومة لتنفيذ تدابير تمنع المزيد من التآكل وتدهور الخط الساحلي. شرعت الحكومة بمبادرة  أطلق عليها إسم “الصومال الخضراء”، وأقرّ البرلمان قانون البيئة في أيار من العام الماضي، ويتضمن حظرا على تصدير الفحم”. لكن مدينة هوبيو ما زالت تختفي أمام أنظار قاطنيها، كما تقول “مريم محمود” البالغة من العمر 44 عاما، وهي أم لثمانية أطفال، وتعيش هناك منذ ثماني سنوات: “لم نعد نستطيع حتى المشي في مناطقنا بسهولة بسبب تلك الرمال، وحتى السيارات باتت تعاني صعوبة في المرور إلى المناطق المقصودة. وحينما جئت نازحة مع أطفالي إلى هوبيو من مدينة هارارديري (على امتداد الساحل) في العام 2015، كنت أقوم انا وجيراني بإزاحة الرمال بأيدينا المجردة، لكن الأمر أصبح محطما لأعصابنا للغاية.. لقد استسلمنا الآن، ونحن تحت رحمة الرمال”. تقف مريم خارج منزلها (المبني من الطابوق) وتنظر إلى كثيب رملي مقابل.. تقول: “هنا كان منزل يعيش فيه جيراني يوما، ولكن لا شيء بقي الآن.. لقد ابتلعته الرمال. واذا لم يتغير شيء فإن المصير ذاته ينتظرنا، وسيكون علينا الفرار أيضا”.  

صحيفة الغارديان البريطانية