تضاؤل كلفة وسائل الحرب يهدد الجيوش الغربيَّة

بانوراما 2024/01/23
...

 فيليب بلكنغتون 

 ترجمة:  أنيس الصفار     

        في عالم الأعمال التجارية يستخدم مصطلح {التسليع} لوصف انتقال مادة ما من وضعها كحاجة فاخرة حكر على المترفين إلى سلعة يومية متهاودة الثمن تباع وتشرى بأبسط الأسعار. فحينما ظهرت الهواتف الذكية في الأسواق لأول مرة كانت بالتأكيد غالية لا يقوى عليها إلا المترفون، أما اليوم فإن الطرازات المسلعة منها تتوفر بأسعار منخفضة قد تقل عن 100 دولار، ولو أن المتطورة وعالية المستوى منها تبقى مرتفعة الثمن.                               

بيد أن التسليع لا يقتصر على مواد التجارّة وحدها، حيث شهدت الحروب هي أيضاً عملية مماثلة بطريقتها الخاصة. فساحات الحرب في القرون الوسطى مثلاً كان يتسيدها الفارس النبيل، وهو رجل كامل التجهيز ومدرب على فنون الحرب منذ ولادته. في انكلترا القرن الخامس عشر كانت كلفة كساء من الدروع عالي المستوى هي 20 جنيهاً او أكثر، وهذا يعادل أجور نبّال بسيط؛ يقوم بصنع النِبال لمدة 800 يوم. وقد كانت هناك اعتبارات عملية وراء اقتناء  كساء الدروع ذاك، فعلاوة على الحماية التي يكفلها لمرتديه من الضربات، والخوف الذي يبعثه في قلوب الخصوم، كان درع الفارس يضفي على مرتديه مهابة في عالم تسوده ثقافة تنظر بإجلال إلى مثل تلك القيم. علاوة على ذلك، وبما أن الدروع كانت مستخدمة منذ فترة طويلة جداً خلال حقبة القرون الوسطى، بوسعنا تخمين أن قيمتها على المدى الطويل تبرر ارتفاع كلفتها بشكل أو بآخر.

غير إن هذا كله تغير عندما ظهرت تقنيات جديدة في استخدام القوس. ففي البداية كان هناك القوس الانكليزي الطويل الذي لم يكن باهظ الثمن بحد ذاته، لكن استعماله كان يتطلب تدريباً مستمراً طول الحياة بحكم قوّة شدّه العالية، وكان معنى ذلك أن تدريب حمَلة الأقواس الطويلة واستخدامهم هو المكْلف. بعد ذلك ظهر القوس المتصالب الذي أثار؛ بعمق اكثر؛ مسألة الكلفة مقابل المنفعة بخصوص دروع الفارس. كانت كلفة انتاج  القوس المتصالب أعلى من كلفة القوس الطويل ولكنه مقابل ذلك كان يتطلب قدراً أقل من التدريب. ومع انتشار القوس المتصالب – مصحوباً في نهاية الأمر بتقنيات أخرى مثل "المدفع اليدوي" (وهو شكل بدائي من المسدسات) والبندقية المسماة "القربينة" - بدأ الفرسان المدرعون يختفون من ساحة المعركة إلى درجة لم يعد لهم وجود إلا في الاستعراضات ومسابقات الفروسية.


التسليع في قرننا الحالي  

كشفت الحرب في أوكرانيا على نحو متزايد بأن الحرب الحديثة تشهد الآن مرحلة تسليع شرسة خاصة بها، والقوة المحركة لهذا التسليع تنطوي على مفارقة ساخرة: فالتكنولوجيا التي كانت قد طورت في الأصل لأغراض عسكرية، مثل نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي أس" والانظمة البصرية الالكترونية  المتطورة، أعيد تصميمها لخدمة منتجات استهلاكية، وبذا أخذت اسعارها بالانخفاض. واليوم تستخدم النسخ المسلّعة من هذه التقنيات في صناعة أنظمة تسلح عالية الفعالية زهيدة الثمن.

أبرز قطعة في هذا النوع من التكنولوجيا التي تم تسليعها حديثاً عبر الحرب الأوكرانية هي طائرة "زالا لانسيت" المسيرة الروسية. فقد أستخدمت هذه الطائرات بكثافة لاستهداف الدبابات وسواها من المركبات التي تستخدمها القوات المسلحة الأوكرانية، حتى بات من المألوف الآن مشاهدة مقاطع فيديو لطائرات لانسيت المسيرة وهي تهاجم دبابات متطورة، مثل الدبابة الألمانية "ليوبارد2"، وتدمرها.

لنتأمل ملياً فارق الكلفة النسبية بين السلاحين المذكورين. فطائرة لانسيت المسيرة تقارب كلفتها 35 ألف دولار، كما يبدو أنها سهلة الانتاج وبسرعة، وقد اعلنت مجموعة "زالا أيرو" أنها سوف ترفع إنتاجها بمعدل عدة اضعاف خلال هذه السنة. أما دبابة "ليوبارد 2" فإنها تكلف نحو 11 مليون دولار، وصناعتها بطيئة حيث لا ينتج منها على مدار السنة سوى 50 دبابة أو نحو ذلك.

من هذه النقطة تتحول الأمور إلى مفارقة عبثية. فعلى أساس الكلفة البحتة تستطيع روسيا ان تنتج 314 طائرة مسيرة من طراز "لانسيت" مقابل كل دبابة من طراز "ليوبارد" تنتجها ألمانيا. ثم يصبح الأمر أكثر دراماتيكية إذا ما أدخلنا في الحساب نسبية الاسعار ما بين البلدين باستخدام ما يسمى "تعادل القوة الشرائية" – وهي الوسيلة التي يستعين بها الاقتصاديون لجعل مقارناتهم الاقتصادية أكثر دقة على المستوى العالمي. وفقاً لهذه الوسيلة سنجد ان تكاليف انتاج دبابة واحدة من طراز "ليوبارد2" في ألمانيا تكفي روسيا لانتاج 683 طائرة مسيرة من طراز "لانسيت"، وهذا يثير سؤالاً واضحاً: هل إن قيمة دبابة "ليوبارد2" كسلاح في ساحة المعركة تعادل قيمة ما يقارب 700 طائرة مسيرة من طراز لانسيت؟ الجواب على الأرجح سيكون: كلا!. 

تسليع ساحة المعركة على النحو الذي شهدناه في أوكرانيا يدعونا للتشكك في كثير من الستراتيجيات العسكرية الغربية المعاصرة، التي يبدو انها تحصر تركيزها في انتاج معدات عالية النوعية غالية الثمن على أمل التمكن من قهر قوى أدنى منها شأناً. هذه ليست حالة مقتصرة بشكل خاص على حروب الاستنزاف الطاحنة كما رأينا في أوكرانيا، فمنذ اندلاع الحرب في غزة خلال الاسبوع الأول من تشرين الأول الماضي شهدنا العديد من جوانب متنوعة أخرى للستراتيجية العسكرية الغربية صالحة لأن تكون موضع تساؤل بسبب عملية التسليع السريع في ساحة المعركة.


حرب غزّة 

مع بداية حرب غزّة باشرت حركة حماس الفلسطينية إطلاق أعداد كثيفة من صواريخ "قسام" على اسرائيل. ويبدو أن تكاليف صناعة هذه الصواريخ منخفضة إلى درجة لا تصدق. أما وقودها فمكوناه هما السكر والسماد. تتراوح كلفة انتاج الصاروخ الواحد بين 300 و800 دولار، أما إسرائيل فإن وسيلة تصديها لهذه الاسلحة هي نظام الدفاع الجوي المعروف باسم "القبة الحديدية". تبلغ كلفة البطارية الواحدة من هذا النظام 100 مليون دولار، وكل صاروخ اعتراضي من نوع "تامر" تطلقه البطارية يصل سعره إلى 50 ألف دولار.

فحتى لو اسقطنا من الحساب كلفة البطارية يبقى بإمكان حركة حماس أن تنتج 91 صاروخاً مقابل كل صاروخ اعتراضي من نوع "تامر"، أي 177 صاروخاً بعد التعديل على أساس "تعادل القوة الشرائية". المقارنة بين الكلفتين هنا واضحة ومباشرة لأن الإسرائيليين يعتزمون استخدام القبة الحديدية لإسقاط كل صاروخ من نوع قسام يطلق على أراضيهم، وإسقاط صاروخ واحد من صواريخ قسام يتطلب إزاءه صاروخاً من نوع "تامر" أو أكثر.

على غرار ذلك يبدو أن دبابات "ميركافا" الاسرائيلية مهددة بخطر الإصابة والتدمير على يد سلاح "الياسين"، وهي منظومة "آر بي جي" تقوم حركة حماس بتصنيعها محلياً. هذا الضعف في الدبابة المذكورة أمام منظومات "آر بي جي"، لا سيما في البيئات المدنية التي تغص بالمباني، ليس بالتطور الجديد. غير إن قدرة جماعة مثل حماس على إنتاج نسختها الخاصة من قذائف "آر بي جي" وعلى نطاق واسع تثير تساؤلات جدية بشأن القدرة على إدامة حرب مدن مستمرة باستخدام المركبات المدرعة، حتى بالنسبة لجيوش حسنة الإعداد والتجهيز مثل الجيش الإسرائيلي.

لا تتوفر تقديرات عن كلفة انتاج قذيفة "الياسين"، ولكن قذيفة "آر بي جي- 7" المعتادة يمكن شراؤها من السوق السوداء بمبلغ يقارب 300 دولار، لذا يبدو من المنطقي ألا تتعدى كلفتها 200 دولار نظراً لانخفاض كلفة اليد العاملة في قطاع غزّة. ولما كانت كلفة دبابة "ميركافا4أم" واحدة تساوي 3,5 ملايين دولار يمكننا القول تقديراً إن حركة حماس قادرة على إنتاج 17500 قذيفة من نوع "الياسين" مقابل كل دبابة ينتجها الاسرائيليون - او 34155 قذيفة بعد التعديل على أساس "تعادل القوة الشرائية". بالوسع ايضاً إثارة تساؤل آخر بشأن مدى تفوق قذيفة "جافلن" الأميركية المضادة للدبابات من حيث الفعالية على قذيفة "آر بي جي" زهيدة الثمن. 

لا شكَّ أنّ أي جندي عاقل سيفضل قذيفة "جافلن" على قذيفة "آر بي جي" عندما يكون بمواجهة دبابة، ولكن حين يكون سعر قذيفة "جافلن" الواحدة المنتجة في أميركا هو 78 ألف دولار فإن حركة حماس تستطيع إنتاج 390 قذيفة من نوع "الياسين" بمقابل ذلك، أو 784 قذيفة بعد التعديل على أساس "تعادل القوة الشرائية".

في ميدان الحصار البحريّ 

بدأ تسليع ساحات المعارك الحديثة النشط يفرض نفسه على الادراك مؤخراً عندما نجح الثوار الحوثيون اليمنيون بفرض حصار بحري فعال في البحر الاحمر.. فعلوا ذلك وهم لا يمتلكون أسلحة بحرية. 

على امتداد التاريخ البشري كانت قدرة السيطرة على البحار، وبالتالي السيطرة على حركة التجارة، لا تتيسر إلا للدول الغنية القادرة على تخصيص نصيب ملحوظ من دخلها القومي لبناء قوة بحرية ذات صولة وشأن. بيد أن تسليع ساحات المعارك الحديثة غير هذه الديناميكية.

كانت اللحظة الفاصلة في حصار البحر الأحمر هي الاستهداف الناجح لسفينة تجارية بصاروخ مضاد للسفن إيراني الصنع. المعلومات عن طراز الصاروخ تحديداً كانت ضئيلة متفرقة ولكن ما من شكّ في أن كلفته تقل كثيراً عن كلفة صواريخ الدفاع الجوي التي استخدمتها سفن البحريات الغربية لاعتراضه. بل أن هناك تقارير آخذة بالظهور منذ الان تبرز حقيقة أن البحرية الأميركية قد استخدمت صواريخ تصل قيمتها إلى مليوني دولار لإسقاط طائرات مسيرة للحوثيين لا يزيد ثمن الواحدة منها على 2000 دولار.

طبيعة هذه الاسلحة الجديدة اثارت مزيداً من المشاكل الجوهرية. فعندما أعلن فرض الحصار تعالت دعوات تناشد البحرية الاميركية وحلفاءها بأن يقصفوا الحوثيين حتى يجبروهم على الرضوخ، ولكن ما هو الهدف الذي سيقصفونه بالضبط؟ فالصواريخ والطائرات المسيرة الجديدة يمكن نقلها إلى أي نقطة من مناطق سيطرة الحوثيين، ثم نصبها واطلاقها من هناك، ومن المحتمل أيضاً أن يتم الاطلاق عن بعد. وخلال الوقت الذي ستستغرقه البحرية الأميركية في تحديد موقع الهدف وضربه قد يتبين أنه لا يعدو ان يكون منصة اطلاق زهيدة الثمن، أو شاحنة فارغة في أحسن الاحوال.


افضلية "الساحة المحلية"

كل هذا يثير عدداً من الاسئلة.. من قبيل: هل من الحكمة عقد مقارنة للقدرات العسكرية بين دولة وأخرى على أساس الانفاق الإجمالي وحده؟ أوضحت مقالة نشرتها مجلة "أميركان أفيرز" في وقت سابق من العام الماضي المشاكل الجدية التي ينطوي عليها ذلك وارتأت أن علينا التوقف عن استخدام هذا المعيار. طرحت المقالة حينها أمثلة معينة، ولكن التطورات الأخيرة أمدتنا بأمثلة كثيرة غيرها، كما أن الأدلة التجريبية تثبت هذه الفرضية على ما يبدو وبسرعة متزايدة. لذا ينبغي الكف عن أخذ المناقشات التي تقارن بين القدرات العسكرية بالرجوع إلى اجمالي الانفاق فقط مأخذاً جدياً بعد الآن.

بعد ذلك هناك مسألة التعقيد الذي تتسم به الصناعات العسكرية الأميركية. هل التعقيد ضروري حقاً لبلوغ الغاية المطلوبة؟ هل إن هذه النماذج ذات التقنية العالية والتكاليف الباهظة مناسبة لساحات الحرب الحديثة؟ هل هناك من ضرورة اصلاً لسلاسل التجهيز الهائلة، المدمجة بدرجة كبيرة؟ 

كثير من التكنولوجيا التي تستخدم في انتاج الاسلحة الجديدة المسلّعة يمكن الحصول عليها من السوق التجارية. 

فمن الممكن مثلاً شراء محرك مماثل لذاك الذي يستخدم في الصواريخ الإيرانية "358" من موقع "علي اكسبريس" او عبر مواقع هواة الطائرات المسيرة بسعر لا يزيد على بضع مئات من الدولارات.

ربما يكون الوقت قد حان لإعادة تقييم كيفية انفاقنا على الاسلحة وما الذي ينبغي أن نشتريه. وقد يكون الوقت حان ايضاً لإعادة تقييم ما الذي تستطيع القوة العسكرية التقليدية تحقيقه وما لا تستطيع في ساحة المعركة التي تحولت حديثاً إلى التسليع. جميع الأدلة المتوفرة توحي كما يبدو بأن هذه البيئة الجديدة تعطي الخصوم بقوة افضلية "الساحة المحلية". 

منذ أمد بعيد كانت القوة البحرية هي الوسيلة المختارة لفرض السطوة على المناطق البعيدة من العالم، لكن إذا كان بالوسع وضع هذه السفن بكل سهولة تحت طائلة التهديد بمثل هذه التكاليف البسيطة عن طريق استخدام الاسلحة الجديدة التي تحولت إلى التسليع حديثاً فإن الفائدة المتوخاة منها قد تتراجع كثيراً عما كانت عليه في الماضي.


عن مجلة "ذي ناشنال إنتريست" الأميركية