المناظر الطبيعيَّة.. سورياليّة ملوَّنة

ثقافة 2024/01/25
...

  ترجمة: مظفر لامي 


جذبَ رسم المناظر الطبيعيَّة اهتمام الفنانين خلال قرون عديدة من الزمن، لما يوفره من رحابة في التعامل مع هذا العالم، وإبراز التطورات التي طرأت على الأساليب الفنيّة والوسائط اللوّنيّة والتقنيات عبر فترات تاريخيّة مختلفة. 

في هذا المقال سنسعى لاستكشاف تطور رسم المناظر الطبيعيّة، وأهم المبدعين الذين تركوا بصمات لا تمحى على هذا النوع من الفن. 

وهذه الرحلة التي بدأت في المحاولات الأولى لتصويرعالم الطبيعة، وما زالت مستمرة في الاجتهادات الحديثة، لم تكشف عن الإبداع الفنيّ فحسب، بل سلطت الأضواء أيضاً على التصورات المتغيرة للطبيعة ودلالاتها في التجربة الإنسانيّة. فالأمثلة الأولى لرسم المناظر الطبيعية، بدأت منذ عصور ما قبل التاريخ في الكهوف، وكانت تصور مشاهد من عالم الطبيعية الذي سكنه البشر الأوائل. وهي تعد بمثابة شهادة على رغبة الإنسان في توثيق محيطه والتأمل في العالم من حوله. 

وتعد لوحات كهف لاسكو في فرنسا، التي يعود تاريخها إلى نحو 15000 عام (ق. م)، الأكثر شهرة بين المناظر التي تعود لعصور ما قبل التاريخ، حيث نلمس في هذه اللوحات، التي تتضمن تصويرًا للحيوانات والبيئة المحيطة، لمحة عن الأحاسيس الفنيّة للإنسان المبكر وارتباطه بالطبيعة. 

مع تقدم الحضارة، حدث تطور مماثل في فن رسم المناظر الطبيعيّة، وتحديدا في اليونان القديمة، حيث ابتكر فنانون، مثل أبولودوروس وزوكسيس خلفيات خلابة للعروض المسرحية، وهي ممارسة أثرت لاحقًا في رسم المناظر الطبيعيَّة في الفن الغربي. 

أما في العصور الوسطى، فقد خضع رسم المناظر الطبيعيّة للمواضيع الدينيّة والرمزيّة، حيث استخدم كخلفية للروايات الدينية، بهدف نقل المعنى الروحي بدل من الاحتفاء بجمال الطبيعة نفسها. وكان إدراج المناظر الطبيعيّة في الفن الديني، وخاصة في المخطوطات المزخرفة ولوحات المذبح من التطورات الهامة في تلك الحقبة. استخدمت المناظر الطبيعيّة كذلك، كأماكن لأحداث الكتاب المقدس، ووسيلة لإبراز السياق الذي تدور فيه الروايات الدينيّة. 

ويعد الفنان هيرونيموس بوش، الذي تعود له العديد من المناظر الطبيعيّة الغنية بالرمزيّة والمسحة السريالية، أحد أشهر الفنانين في تلك الفترة. حيث تميزت أعماله مثل لوحة (حديقة المسرات الأرضيّة) بمناظر طبيعيّة خيالية تعكس الاهتمامات الدينية والأخلاقية في زمنها. 

وفي حقبة عصر النهضة حدث تحول كبير في طريقة إدراك وتصوير الطبيعة في الفن، بدأ الفنانون خلالها في استكشاف فكرة الطبيعة باعتبارها انعكاسًا للقدرة الإلهية، مما جعل رسم الطبيعة يتطور ليصبح فناً مستقلا، ثم جاء ليوناردو دافنشي، وهو الفنان الأكثر شهرة في عصره، ليظهر اهتمامًا كبيرا بدراسة الطبيعة، وفي رسوماته التفصيلية للمناظر الطبيعية، مثل لوحته (نظرة عين طائر لمنظر طبيعي)، نلاحظ تقديرًا عميقًا لتعقيد وجمال عالم الطبيعة. كذلك قدم الفنان الألماني ألبريشت دورر مساهمات مهمة في هذا الفن من خلال نقوشه التفصيليّة والخشبيّة للمناظر الطبيعيّة. إذ نلمس في أعماله، ومنها لوحته (قطعة العشب الكبيرة)، رصد دقيق للحياة النباتية، ورغبة في تمثيل الطبيعة بأكبر قدر ممكن من الواقعية. وفي القرن السابع عشر، شهد العصر الذهبي الهولندي ظهور رسم المناظر الطبيعية كفن بارز، لعب فيه فنانون مثل جاكوب فان رويسديل وأيلبرت كويب، أدوارًا محورية في رفع مكانة هذا الفن. وكانت معظم لوحاتهم تصور الريف الهولندي الهادئ والشاعري. والملاحظ على المناظر الطبيعيّة في هذه الحقبة أنها تبنت أسلوبا واقعيا ورمزيا، ركز فيه الفنانون على تأثيرات الضوء والجو وظروف الطقس في أعمالهم. وكانت اللوحات التي تصور الطبيعة الهولندية والحياة اليومية لسكانها هي السمة البارزة لهذا العصر الذهبي. على سبيل المثال، عُرف إيلبرت كويب بمناظره الطبيعيّة الذهبيّة الدافئة التي تغمرها أشعة الشمس، والتي غالباً ما كانت تصور الماشية والأنهار، كذلك رسم رويسديل مناظر ذات طقس وظروف جوية مثيرة وعمله (منظر لهارلم مع أراضي مبيضة) يجسد مهارته في التقاط ظروف الطبيعة وتقلباتها. 

في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، أنعشت الحقبة الرومانسية الاهتمام بالطبيعة، كموضوع ومصدر الهام للفنانين. ونُظر للطبيعة على أنها قوة جبارة، يمكن أن تثير مشاعر عميقة، وتكون بمثابة انعكاس لوضع الإنسان. وفي أعمال كاسبر ديفيد الذي عرف بمناظره الطبيعية التي تغلب عليها مسحة متسامية، نجد أنه يرسم مشاهد تتضمن غالبا شخصيات منفردة في أماكن طبيعية ساحرة. ويعد عمله (المتجول فوق بحر الضباب) خير مثال لرسم المناظر الطبيعيّة الرومانسيّة.  حيث نرى في اللوحة شخصا وحيدا على قمة جبل، ينظر لمشهد يغطيه الضباب. وتمثل المرحلة الرومانسية خروجاً على الواقعيّة الصارمة للعصر الذهبي الهولندي، أتيح فيها المجال لمزيد من التفسيرات العاطفية والخيالية لعالم الطبيعة.

أما في القرن التاسع عشر، فقد أصبح لمدرسة باربيزون في فرنسا تأثير مهم على تطور رسم المناظر الطبيعيّة. والفنانون البارزون فيها مثل جان بابتيست، كاميل كورو وجان فرانسوا ميليت، رفضوا التصوير المثالي والرومانسي للمناظر الطبيعيّة، وفي المقابل اتخذوا نهجا أكثر مباشرة وواقعية. وغالبا ما كان رسامو هذه الحركة يعملون في الهواء الطلق لالتقاط الجوهر الحقيقي للطبيعة. وكان سعيهم موجهاً لنقل بساطة وجمال الريف والحياة القروية اليومية لسكانه. ولوحة جان فرانسوا ميليت (الملتقطاتthe Gleaners) هي مثال بارز لهذا النهج، حيث يصور ثلاث فلاحات يلتقطن بقايا حبوب القمح من الحقل بطريقة واقعيّة وغير مثالية. وهنا لابد لنا من الإشارة لفضل مدرسة باربيزون في التأسيس لظهور الحركة الانطباعية التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وأحدثت ثورة في هذا الفن، من خلال رؤيتها الجديدة لتصوير الطبيعة. ونهج فنانيها مثل كلود مونيه، بيير أوغست رينوار و كاميل بيسارو، الذي كان مكرساً لالتقاط التأثيرات العابرة للضوء واللون في عالم الطبيعة. تلا ذلك، ظهور حركة ما بعد الانطباعية ممثلة بفنسنت فان جوخ وبول سيزان، التي قدمت تفسيرات جديدة، وكان لها توجه لإضفاء عناصر شخصيّة وعاطفيّة على المناظر الطبيعيّة، رغم اعتمادها على أسس المدرسة الانطباعية.