عالية خليل ابراهيم
يبرز موضوع الجنون واضحا إلى واجهة التمثيل السردي العراقي الراهن وفي السنوات القليلة الماضية احتجاجا على الأحداث التي عصفت بالبلد وبخاصة بعد الحرب الأخيرة ضد تنظيم “داعش الارهابي” وما جاءت به تلك الحرب من ويلات وخلفته وراءها من ركام تخريبي للإنسان والدولة، تمثيل الجنون دلالة ومحتوى كان سمة مشتركة للسرد في ملف للقصة القصيرة أصدرته مجلة “الأديب العراقي” شتاء 2016 وقد اشترك فيه نخبة مميزة من القصاصين ومن أجيال أدبية مختلفة جمعت بينهم حالة من التوق لجنون رومانسي يخلص ابطالهم من مستنقع الواقع. وقد أصدر الروائي عبد الخالق الركابي رواية مهمة عن الجنون بعنوان “ ما لم تمسسه نار”.
رواية “ فسحة للجنون” من أواخر ما كتب الراحل سعد محمد رحيم ، عنوانها أقرب لقصيدة شعر منه إلى عنوان رواية لقد أراد لها أن تكون قصيدة رفض من خلال الاحتفاء بالجنون بوصفه شاعرية انعتاق من سلطة الواقع”الرواية” نحو الرمز والاستعارة”الشعر” ومن هيمنة العقلنة نحو جذل الحواس، “ فسحة للجنون” رواية تصويرية سواء على مستوى مبناها الدرامي المتسلسل أو على مستوى اللغة الشاعرية المميزة لها.
ادانة الارهاب
أفترض تأويلا أن زمن الرواية وليد اللحظة التاريخية الراهنة ، الروائي سعد محمد رحيم يرى بلدته التي عاش فيها شطرا من طفولته وصباه وهي تُنتهك من قبل قوة ارهابية غاشمة ،بلدة “السعدية” رمز لها في الرواية بالحرف” س”، وهي البلدة القريبة من المدينة التي عاش فيها الشطر الأكبر من حياته مدينة “بعقوبة” ورمز لها بالبلدة “ب”، فما كان منه إلا أن يرفض هذا الاحتلال وينبذ الحرب الجديدة “القديمة” محتفيا بالمجانين والحمقى هؤلاء الذين غادروا وعيهم وعادوا أطفالا أبرياء عراة تحت ضوء الشمس. لم يماحك الروائي الانية بما يكتنفها من اضطراب في المشاعر والتباس في الرؤية والمعالجة فلجأ إلى ذاكرته الابداعية ليدين أول من أسس منهاجا الكراهية بين أبناء الشعب الواحد وشرع ثقافة التوحش التي ظلت تفرخ قتلة ومجرمين للتاريخ القادم.
يبدأ زمن الحكي من أواخر السبعينيات قبل الحرب العراقية الايرانية، شاب جنوبي اسمه “عامر عباس حميد” كان ضحية ذلك التعذيب الوحشي في معتقلات الأمن العامة والذي قل نظيره في التاريخ الحديث، لم يكن “عامر عباس”مجنونا قبل الحرب بثلاث سنوات وبضعة شهور، كان شابا يدرس في أكاديمية الفنون الجميلة قسم الرسم وكان له حبيبة وأصدقاء أحلام وطموحات ومشاريع للمستقبل، الصقت به تهمة الشيوعي لأنه قارئ نهم ولا يخشى أن يبوح ضمن حلقات الأصدقاء في مقاهي بغداد وتجمعات الطلاب في الجامعة أو الأقسام الداخلية، تلك التجمعات التي تبلورت فيها تيارات فكرية وأدبية وثقافية وفي الوقت ذاته راح ضحيتها الالاف من الأبرياء لأنها كانت تضج بالوشاة والمخبرين ،ظل عامر يردد كلمة جاسوس في كلامه وهذيانه، فالجاسوسية من الكلمات المفتاحية في الرواية. كان التعذيب الوحشي فوق طاقة احتماله هو الشاب الرومانسي سريع الاستثارة والانفعال فيفقد عقله ويودع في الشماعية فترة ويطلق صراحه بعد أن تعده السلطة مختلا عقليا، لم يرغب بالعودة إلى المدينة التي ولد ونشأ فيها فقد ذهب صوب البلدة الحدودية “س” هائما على وجهه في الأزقة والطرقات يغير اسمه ليكون “حكمت” يطلق عليه الناس في البلدة تسمية”حكًو” المخبل.
جرب المؤلف لعبة سردية طريفة وجديدة في الرواية، فقد جاء السرد بصوت الراوي العليم غير أن هذا الراوي يتهكم من وظيفته احيانا ويشكك في كونه عليما بكل شيء “أن كنت لم تدرك بعد ماذا يجري فارجع عزيزي القارئ إلى فصل لصوص الحرب في هذه الرواية لتعرف أن حكمت يتذكر تلك الليلة من أوائل أيام الحرب، وعذرا لهذا التدخل من قبلي، أنا الراوي غير العليم بكل شيء”/206.
بلدة للحمقى
تقمصت الشخصية دور المعتوه أو الأحمق لتنجو بروحها الشفافة من ركام القسوة والظلم هذه قناعة الراوي والدليل الذي يقدمه على ذلك هو عدم أصابته بأعراض الجنون المعروفة مثل الاكتئاب الهوسي أو السوداوية وإنما تقمص الجنون بصورته الساخرة المتوارثة في المخيال الشعبي مثل الشعر الأشعث والاسمال الممزقة، يمشي وفي يده عصا، يتلفظ بالفحش، يصفق ويغني وقت يشاء يحمل معه ربع عرق”هبهب” في جيبه ويكرع منه قليلا بين ساعة وأخرى. من جانب آخر وفي صفحات مطولة يصف الراوي مشاهد التعذيب الذي تعرض لها عامر في المعتقل، تلك المشاهد تدل على أن الراوي ترك للقارئ حرية الاختلاف معه في ترجيح جنون عامر من عدمه، فالمروي له يشارك الراوي في كشف دلالة الأحداث والتنبؤ بنتائجها فالأعلمية الذي يمنحها الراوي لنفسه تبقى مجرد افتراض والقراءة الذكية هي الأعلم.
بعد أسابيع معدودة على بداية الحرب وتبادل القصف بالمدفعية والطائرات يترك جميع سكان البلدة مناطقهم وينزحون في هجرة جماعية إلى مدن أكثر آمنا، لم يبق في البلدة سوى المخبول “حكو” وظل معه مجموعة من المنبوذين والمعتوهين مثله، يقيم بهم ومعهم جنة للحمقى والمعتوهين في بلدة حدودية مقفرة ومدمرة تلظى بجحيم حرب عبثية بين بلدين جارين.