ما الذي نحتاجه لبناء مدنٍ صالحة للعيش؟
صفاء ذياب
على الرغم من البنايات العالية، والشوارع المعبّدة، والتخطيط العمراني الدقيق، غير أننا لا نشعر بأننا نمشي في مدينة حيّة... هذا ما نراه في الكثير من المدن الجديدة التي بنيت منذ عقود قليلة، في حين أننا نشعر بالحياة، وبالمتعة البصرية، والألفة، في مدن قديمة، غير مخططة بشكل جيّد، إلا أنها مبنية بروح الإنسان، ومعنية بكيفية الحفاظ على طبيعتها التي أسست عليها منذ أزمنة قديمة.
ربّما يدخلنا هذا بالتناقض، بين مدن صُرِفت عليها مبالغ طائلة من أجل أن تكون مجرّد جدران كونكريتية من دون روح، ومدن بناها الإنسان والزمن، تجد روحك ترفرف حولها، هذا التناقض الذي يجعلنا نتساءل: ما الذي نحتاجه لنعيش باستقرار روحي، وألفة تعشقها؟
فإذا كانت المدن تبنى من خلال التخطيط العمراني وطرز البناء والتصميمات التي تجعل من كلّ مدينة علامة فارقة ضمن سياق المدن الأخرى… فما الذي نحتاجه لبناء مدننا غير العمران، لاسيّما أنَّنا نعيش في زمن تهالكت فيه البنى التحتية لكلِّ شيء؟
سلطة هندسيّة
يرى المعماري الدكتور أسعد الأسدي أنَّ المدينة كيان معقد، تتأسّس معتمدة على قدراتها وقدرات سكّانها واحتياجاتهم وأحلامهم وسواها من مؤثّرات تتدخّل في صياغة صورتها، ولقد تعوّدت المدينة المعاصرة أن تخضع في حيوية تشكّلها وتحوّلها إلى عقل هندسي جبّار يتمثّل بالمخطّط الأساس للمدينة، وهو عقل يمتلك جبروته في أثر اعتماده على دراسات شاملة لتاريخ المدينة وطبيعتها وممكناتها وقدرات واحتياجات وأحلام سكّانها، والتعمّق في كلِّ ما يمكن أن يؤثّر في صنع صورتها، غير أنَّ معاينة متفحّصة لحال مدينتنا تكشف عن تحوّلات كبيرة فيها، وضخامة واضحة ووقائع حضرية ومعمارية جديدة ومختلفة، غير أنَّها كما يبدو، قد تسبّبت بفعل فداحة حضورها في فداحة مشاكلها، وسوف تفضح تلك المعاينة المتفحّصة كيف أنَّ مدينتنا قد تنامت متسارعة في تحرّر واضح من سلطة العقل الهندسي لمخطّطها الأساس، وقد أثمرت شجاعتها المتهوّرة تلك عن وقائع مدينية مليئة بالتعقيدات التي تستدعي المعالجة والحلول، ومن هنا يبدو واضحاً كيف يلزم أن تلتزم المدينة في تحوّلها اتباع خطّة عقلها الذي يكون قد تمثّل كلّ ما يمكن أن يتدخّل في بناء تحوّلاتها، غير أنَّ هذه الإشارة الأخيرة تواجه في حقيقة أنَّ العقل الهندسي الذي نتحدّث عنه موجود ويمتلك خطّته الواضحة، غير أنَّه يفتقد إلى سلطة إنجازها، الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أنَّ تطوّر المدينة لا يمكنه أن يكتفي بخطّة تطويرها، من دون سلطة هندسية متمكّنة تعمل على تنفيذ تلك الخطة، وأن تحتمي تلك السلطة بإدارة كفؤة ونزيهة، تتمكّن من دقّة تنفيذ صورة المدينة التي يكون المخطّط الأساس قد أمتلكها في دراساته الأولية الشاملة، وما أتيحت له من حصيلة تكفيه كي يصنع نبوءته المجدية في كيف على المدينة أن تكون، وكيف يمكنها حقّا أن تكون.
منظومة متعدّدة
في حين يبيّن المعماري محمد الصوفي، أنَّ المدن في العادة وليدة ظروفها الخاصة، الطبيعية منها وما يساهم الإنسان فيها.
وما نراه اليوم من بعض المدن هو نتيجة تراكمية لجغرافيتها، مناخها، النشاط التجاري الذي يعتاش عليه قاطنوها، فضلاً عن موقعها ودورها في إقليمها، وبالطبع، نظامها السياسي ومتطلّباته واستقراره من عدمه.
هذه الظروف مجتمعة، مع ظروف أخرى، هي ما يولّد الطرز والعلامات الفارقة.
فالعلاقة بين السياسة والمجتمع هي أحد راسمي أشكال المناطق العامة، وثقافة المجتمع هي ما يفعّل أشكال هذه التفاعلات في المدينة، وطبيعة المنطقة ووفرة موادها هي ما يمنح المواد المستخدمة أهميتها، والمعتقدات المتنوّعة هي ما تمنح أنواع المباني من معابد وأسواق جماليتها، وتحدّد السطوح والنقشات والألوان ومناخها ما يمنحها انفتاحها أو انغلاقها، وهكذا دواليك.
في بعض الأحيان يحصل ذلك كلّه باستمرارية وتبدّلات بطيئة، وفي أحوال غير مستقرّة تكون التبدّلات ذات قطيعة مع ما سبق كلّه.
ويضيف الصوفي: ستكون العبارة كليشية مستهلكة ربَّما، أن نقول إنَّ العمران يبدأ ببناء الإنسان، لكنَّها صحيحة لحدٍّ كبير.
فالمدن، وحسب أحد تعريفاتها، هي المكان الذي يعيش فيه خليط متجانس من البشر ذوو الأعراق والمعتقدات العديدة، يمارسون فيه أكثر من نشاط اقتصادي، ومحكومون بنظام سياسي واضح، وبالتالي، فمن دون عقد اجتماعي واضح المعالم، كما هي واضحة معالم العمران، فإنَّ التراكمات العمرانية ستفقد فعّاليتها، وستغدو العشوائية سيّدة الموقف.
فما يميّز التراكم العمراني في المناطق الحضرية والمدن، أنَّها محكوم بمنظومة متعدّدة المجالات.
عمق الهويّة
من جانبه، يشير المسرحي الدكتور جبار صبري إلى أنَّ، المدن بذاتها تعدُّ كائنات حيّة، كائنات تعكس صورتنا نحن؛ الصورة التي نراها في أنفسنا على شكل رغبات وتراكم ثقافات أو تقاليد أو أساليب معيشة أو تداول لساني وغيرها، هي تلك الصور التي تعكس وجه الكتل الجامدة في البنيان على هيئة كتل حيّة في البشر، ولأنَّنا لم نخضع يوماً لشرط التخطيط والترتيب ولسبب تاريخي قاهر محاط دائماً بالنزاعات الداخلية والخارجية، بدت الكثير من المدن ولاسيّما القديمة، كونها تشكّل الطراز التقليدي المتوارث للمجتمع كأنَّها تؤكّد ذلك الانعكاس الداخلي لشخصيتنا الاجتماعية أو لمجموع تلك النزعات التي مرّت وتمرُّ بنا كلّ وقت.
مؤكّداً، أنّه بغضِّ النظر عمَّا يتطلّبه التجديد أو عمليات تحديث العمارة وطغيان نزعتها الحاضرة، إلَّا أنَّ الكثير من المتهالك والصامد من أبنية المدينة تعالق بالبقاء كونه تعالقًا بالعمق الهويّاتي للمجتمع، كذلك أنَّ تلك الأبنية تعيش الصورة الحقيقة لشخصيتنا الاجتماعية من جهة وتعكس بعدنا التاريخي الذي يتمظهر لنا على شكل طرز ثابتة.
طرز تشبه أنفسنا حدّ التماثل. طرز تكاد تكون نحن (المجتمع)، ولكن بهيئة مدن من جهة أخرى.
نمو الذائقة
ويؤكد الفنان التشكيلي كريم سعدون، أنَّ المدن تبنى وتعمّر وفق مخطّطات عمرانية خاصة وجادّة وبطرز بناء ملائمة للعصر وتنسجم مع ميزات البيئة المحلّية، ولكنَّ الحاجة الماسّة والضرورية ستكون بوجود كيفية ملائمة لحماية ما ينجز، فالتجوال في مدننا هذه الأيام سيرى بسهولة حجم الضرر الذي أصاب بنيتها الأساس الذي تعرّضت إلى التهالك بسبب الأحداث الجسيمة التي مرَّ بها البلد بشكل عام، ولأنَّ العشوائية والتجاوزات التي انتشرت في الوقت الحالي أدّت إلى أن تخسر المدن مخطّطاتها الأساسية، فقد تآكلت بناها التحتية وانتشرت تصاميم بناء لا تراعي ملامح البيئة المحلية ولا تمت إلى الذائقة السليمة، بل ساهمت بتخريب ما تبقّى منها، ومن هذه النقطة يجب الانطلاق لأنَّ الذائقة تنمو بنمو عناصر أخرى منها التربية والتعليم والقانون، فليس من السهل الحفاظ على ذائقة سليمة لدى المواطن في ظلِّ ارتفاع معدّلات الأمّية وتدهور التعليم بمراحله كلّها، وانتشار غير مسبوق للفساد في مرافق مهمّة، وذلك هو الذي يخلق مواطناً غير مسؤول ولا يملك طموحاً إلى التقدّم في مستوى الحياة وبذائقة متدنّية، وذائقة المواطن الجمالية المتقدّمة هي التي تجعله مسؤولاً ولا يقبل التشويه الذي سبّب تلوّثاً بيئيّاً شاملاً.
لذلك يعتقد سعدون أنَّ الارتقاء بمستوى التعليم يراكم لنا متخصّصين وخبرات فنّية عالية، كما يخلق لدينا وعياً حادّاً ومستوى ثقافيّاً مطلوباً.
أمَّا احترام القانون فيجعل المواطن حريصاً ومسؤولاً وميّالاً إلى الحفاظ على جمال المدينة بروح المواطنة الحقّة، وكما البيت بساكنه فالمدن بساكنيها أيضاً، والمواطن المتعلّم الذي يمتلك وعياً متقدّماً هو الذي يدعم
ويحافظ ويشترك في تحديد ما هو المطلوب من الجهات المسؤولة عن الإعمار بشكل عام لكونه المسؤول عن التمتّع بما سينجز وهو من يضمن حمايته.
مرتكزات المدن
ويكشف الناقد الدكتور عبّاس آل مسافر، أنّه في خضمِّ الحاجة إلى تعمير المدن ومحاولة تشييدها فنحنُ بحاجة إلى مرتكزات أساسية أخرى تسبق العمران أو تسانده في الأقل، فمن الأمور المهمّة التي لها دور في ذلك، هي بناء مجتمع يؤمن بالحياة المدنيّة وبالقانون الذي يحكم تلك الحياة، فالمدن ليست هي بنايات عالية وجسور ومتنزهات ومطارات فقط، إنّما هي إضافة إلى ذلك مجموعة من العلاقات الوثيقة التي يجب أن تراعى ويضع لها الحساب قبل تشييد المدن الحديثة، وهذه العلاقات يمكن تصوّرها من خلال العلوم الحديثة مثل علوم البيئة وعلوم الجيوتقنية وهندسة النقل وعلوم
الاستدامة.
وهذا يعني بأنَّ (بناء المدن) يتعلّق بأمور أخرى أكثر أهمّية من العمران نفسه، لكنَّ هناك ثلاثة أشياء مهمّة يجب التفكير بها قبل بناء المدن وهي أولاً؛ العمل على زيادة النشاط الاقتصادي في المدن من أجل خلق فرص عمل للسكّان فيها الذي يعمل بدوره على تأمين حياتهم ويساعدهم على الاستمرار فيها ومقاومة، والأمر الثاني يتعلّق بالتفكير في الجانب الصحي من توزيع المشافى وعيادات طبية وغيرها من الخدمات الصحّية التي يجب تقديمها للسكّان وفقاً للطاقة الاستيعابية للمدن، أمَّا الأمر الثالث هو التعليم وما يشمله من مدارس ورياض أطفال وجامعات ومعاهد، إذ إنَّه يساهم في استقرار المدن ويطوّرها ويساعد على نموّها وزيادة أنشطتها.
هذه هي ما تحتاجها البلاد إلى جانب التخطيط ووضع استراتيجيات العمران الحقيقي لبناء المدن، إذ إنَّ العمل على إيجادها قبل بناء المدن وليس بعدها سيخلق مدناً عصرية.
مدن الفن
ويختتم جابر حجاب موضوعنا بقوله إنّه على غرار ما يتداول كثيراً عن المدن الفاضلة ومدن صديقة للبيئة وغيرها، تراودني فكرة مدن الفن.
وما أقصده ليس مدينة خالية من السكّان أو للمناسبات، وإنَّما مدينة تتصادق فيها الفنون مع العمارة بجوانبها كلّها.
وأعني به تحديداً أن تكون المركزية للعمل الفني أيَّاً كانت وظائفه؛ تذكارية أو عامة، بعدما تصمّم المدن أو الأحياء السكنيّة الجديدة وفق مساحات وساحات لهذا الغرض.
وبعدها تصمّم المباني بأنواعها كلّها بما يتناسب مع العمل الفني، وهنا نكون في وسط لا ينفصل عن بعضه شكلاً ووظيفة.
مؤكداً: الخلاص ينطلق من الفن، هذا ما أريد قوله، على مرِّ العصور نشاهد أنَّ الفنون هي أطول عمراً من بقيّة ما أنجزته يد الإنسان، وفن النحت بأنواعه كلّها هو الأكثر بقاءً من الجميع بطبيعة خاماته طبعاً، ولهذا فكلّ ما يرتبط بالفن جمالاً وصدقاً ستصيبه لعنة الخلود، ومن هنا أدعو إلى هذا النوع من المدن والأحياء يرتبط بها الكل مع الجزء حتَّى نرى العمل الفني وما يحيط به من عمران منجز واحد إن مُسَّ جزء منه سيمسُّ الجزء الآخر التشوّه، وهذا ما يدعونا إلى العناية بالمفاصل كلّها باستمرار وتواصل.
هنا لنأخذ مثلا (نصب الحرية، 1961) في بغداد للفنان جواد سليم (1919 - 1961)، منذ أكثر من ستّة عقود لا يزال شاهداً على المكان، تغيّرت مفاصل المدينة كلّها تقريباً، والمكان المحيط بالنصب أيضاً نحو الأسوأ غالباً، وبقي النصب والساحة المرتبطة به في الخلف لم تُمس حتّى وإن جدّدناها نحاول أن لا يُمس الأصل، وهذا ما نأخذه على بقية النصب والتماثيل المهمّة حول العالم، أبسط جولة سترى الفرق.
كنت أتمنى ومنذ سنوات أن نجعل من شارع وحدائق أبي نواس المجاورة للنهر حديقة مفتوحة للفن والتماثيل، قبل تآكلها من جهات مختلفة الآن، حديقة مفتوحة كبيرة وشريطاً طويلاً موازياً للنهر وللمنطقة المقابلة للحدائق، منطقة مخصّصة للفنون تقام فيها التماثيل والجداريات، أعتقد حتّى هذه الأمنية أصبحت بعيدة الآن.
الخلاص في الفن، وكل ما ابتعدت مدننا عنه وقلّت ساحاته، سيصيب عمرانها التدهور.