خوارزميات الشعر

ثقافة 2024/02/21
...

د. كريم شغيدل

شكلت مجموعة(جوائز السنة الكبيسة) للشاعر رعد عبد القادر في حينها أنموذجاً عراقياً متكاملاً للنص البصري، ولا أقول إنها أولى التجارب، بل سبقتها تجربة قحطان المدفعي ونوعاً ما تجربة عبد الكريم كاصد، إلا أن تكاملها يأتي من كونها نصاً لغوياً تحوَّل إلى مخطوطة بخط الشاعر حكمت الحاج الذي أجاد التنوع في تشكيل الكتل والخطوط، إلى جانب رسم الطغراءات والعلامات الأخرى، وربما استحضرت التجربة تجارب الشعراء المغاربة في القصيدة البصرية، وقد وظف النص أيضاً لغة الأرقام في مواضع عدة:

ونلحظ لغة الأرقام: (سنة 2048) (32 طيراً) (64 غصناً)(السنة الثامنة-8-) (طيرين- شجرتين) (32 حجراً) (64 مربعاً) وتتضاعف الأرقام (32- 64) وتتكرر، وإذ يتميز العدد بالمعدود يمكننا القول إنَّ الشجرة تمثل الحياة والطير يمثل الحرية، ثم تتحول الحرية إلى حجر وتتحول الحياة إلى مربع(قد يعني السجن) ولا بدَّ لهذه الأرقام من محمولات قد تكون شخصية أو أيديولوجية، ونلاحظ أنها أرقام زوجية، ولو قمنا بعملية رياضية بسيطة بتقسيم رقم السنة على عدد الأغصان أو المربعات لكان الناتج يساوي عدد الطيور أو الأحجار(2048÷ 64= 32) وإذا قلبنا المعادلة فسنجد(2048÷ 32= 64) إذ وظف الشاعر المتوالية العددية، بمعنى آخر ستكون السنة(2048) حاصل ضرب(32× 64) وواضح أنَّ هنالك قصدية في توظيف هذه الخوارزمية أو المتوالية العددية، والرقم 2048 قابل لأن يؤوّل تأويلاً أيديولجياً، ففي هذه السنة سيكون قد مرَّ قرن كامل على نكبة فلسطين، والعصافير هم رمز العرب الذين يضعون كل رجل على غصن في شجرة الوطن الذي انشطرت هويته، وتتحول العصافير إلى أحجار ثورة أمام مربعات النوافذ الزجاجية الواهنة التي يكمن وراءها من استلب الأرض، والنص يعكس سياقاً ثقافياً بمحمول سياسي لما ساد حقبة التسعينيات من مقاومة فلسطينية سميت بثورة الحجارة، وهو مجتزأ من نص طويل اشتغل فيه الشاعر على مدلولات ذاتية سيروية وأخرى موضوعية ثقافية ورمزية واستحضار لليومي والمثيولوجي.
ويوظف الشاعر سلمان داود محمد لغة الأرقام بطريقة مختلفة لتشكل علامات شخصية دالة على الذات الشاعرة، في سياق قصائده السيروية:
 منذ ثلاثين دسيسة
وشبهاتي لم تبلغ سن الرشد
ألف ظلام مر
ولم يستنشق عباد الشمس
أنوثة البصيص
 واضح أنَّ الثلاثين تعني عمر الشاعر عند كتابة هذه القصيدة، وقد ميَّزها بالدسائس بدل السنوات، أو استعار الدسائس كناية عن سنوات العمر، والرقم ألف هو للكثرة والمبالغة في لغة التداول اليومي، وهو توظيف مجازي لبيان شدة الظلام وما مرَّ بحياة الشاعر من مآسٍ وحروب وخيبات، وفي نص آخر يوظف تكرار الرقم(7) على ما هو عليه من محمول زمني فيزيائي دال على أيام الأسبوع، أو محمول ديني دال على أيام الخلق، ثم يوظف أرقاماً أخرى:
 (انتباه)
7  قرون من العسل الكسول غير كافية لتخريب مكننة
الربو...
 77 شمساً لن تتمكن من إسعاد الأعمى...
 777 دهراً من الاغتسال لا تعيد آدم الى ما كان عليه...
 7777 (لماذا) تكفي لرجل أدمن المشي على(4)
أن يتأرجح في(6)
             جاء تكرار الرقم(7) بطريقة الاطراد الميكانكية، وبإمكان الشاعر أو المتلقي أن ينسج على هذا المنوال ما لا يعد من الجمل بتكرار الرقم، والرقم(4) مقروناً بالمشي يشير إلى الطبيعة الحيوانية، وهي كناية عن الرجل(الذات- الأنا) المحطمة المنكسرة، التي تحيا حياة الحيوان ذلاً وهواناً، أما الرقم(6) فهو إشارة إلى العوق، بإضافة عكازين للأطراف الأربعة، وفي خاتمة النص نفسه يوظف الشاعر عملية حسابية:
        رافقت غبائي كي أنسى:
        (الصفر) المضروب بـ(1)
        يساوي
        غداً.....
وحاصل الضرب هنا يساوي صفراً، بمعنى آخر إنَّ الواحد يعني الإنسان، والصفر يعني الزمن، والنتيجة تعني المستقبل، كناية عن اليأس من الحاضر الذي لا ينبئ بمستقبل، وثمة ملمح وجودي يشير إلى عبثية الحياة التي يتغافلها الإنسان أو يتناسى فكرة الزوال المرموز لها بالصفر، ويجسد الشاعر رؤيته القاتمة للحياة عبر التوظيف الرمزي للأرقام:
 تزوج حب رابع
من امرأة في حب سادس
فاحتشدت في أول طفل
عشر ضحايا...
وهذا المقطع لا يعني بالضرورة عملية دحض لمؤسسة الزواج، وإنما أراد أن يجسد استهلاكية مشاعر الحب، فالرجل مرَّ بأربع تجارب أهدر فيها مشاعره، والمرأة بست تجارب استهلكت خلالها عاطفتها، وكل تجربة هي انعكاس على الطفل الضحية، في محاولة لتجسيد حالة التشظي الإنساني وانعدام الاستقرار الأسري الذي ينتج عادة أطفالاً معاقين نفسياً أو ضحايا، ويوظف الشاعر الرقم(99) الذي يرمز إلى أسماء الله الحسنى في موضوع آخر، كما يوظف ما يسمى بالرقم العسكري” إني المرقم ج.م (33337)، ويوظف(الصفر) بطريقة تهكُّمية كما يوظف الأرقام في اختزال الوقائع اليومية للحرب بدلالة الأمكنة:
بينما الآلهة توقد(الصفر)
في طحين دامس...
سبحانك أيتها المدافع
في(أربيل) كنّا(10) يضحكون
في(شرق البصرة) أصبحنا(وحدي)
يقيس الـ (9) بالحشرجات....
     ويلعب النص على المفارقة الإسنادية للمفردات(طحين دامس، سبحانك أيتها المدافع) لينتقل باختزال شديد من واقع الحصار إلى الحرب بطريقة الاسترجاع(فلاش باك) وبدلالة المكان الذي يشير للحرب(شرق البصرة) ليجسد حالة الفقدان في أتون الحرب، كما توظف بعض النصوص التسلسل الرقمي(أولاً، ثانياً..... سادساً) بنوع من التقريرية التي تحيل إلى القوانين أو القرارات أو الدساتير وغير ذلك، ويوظف الشاعر سلمان داود محمد الأرقام والعمليات الحسابية في مواضع أخرى بدلالات ورمزيات مختلفة:
1 - عمري: 37 شظية وأسى يتكرر
2 - سأعد الناس:/ 987654321  .... وهلمَّ سحلاً
3 -  رأسه بـ (30) حصاناً
4 - أنا حاصل ضرب(الشحّة × الهدنات)
5 -  فهل لديك 17/1/ 1991 ديناراً لنشتري جريدة..؟!
     وفي المقطع الأخير مازج الشاعر بين تاريخ بدء القصف الجوي المكثف على مدينة بغداد من التحالف الدولي في ما سمي بعاصفة الصحراء والتضخم الاقتصادي وانهيار الدينار العراقي بسبب الحصار الاقتصادي، فالرقم الذي هو تاريخ الحرب قد حول ثمن الجريدة الذي كان مبلغاً رمزياً لا يتعدى الخمسين فلساً إلى رقم كبير بالدينار العراقي الذي باتت قيمته أقل من الفلس بكثير.