أ.د. علي يوسف الشكري
منذ سنة 1921 والعراق يعيش الأزمة، فما أن تنفرج أزمة إلا وتنهض أكبر منها، بل نذهب للترحم على السالفة بلحاظ حجم القائمة وآثاره، حتى أضحى اليأس وربما الهم والحزن السمات التي يوصف بها المزاج العراقي والذوق العام بل والشعر والأدب والطرب العراقي، فما أن ترى مهموماً مغموماً إلا ويقال عنك عراقي . ويقيناً أن ذلك لم ينشأ عن فراغ، فقد مرّ العهد الملكي وهو العصر الذهبي للدولة العراقية الناشئة، واحتدام الخلاف الشعبي السلطوي فكان في أوجه، بل وتسيد الخلاف السياسي البيني على المشهد السياسي فما أن تتشكل حكومة إلا وتسقط بإرادة ملكية لا شعبية، والمجالس النيابية تتهاوى تترا، والفقر والمرض والأمية تنخر المجتمع العراقي وتعبث بحياته، والشعب مشغول بهموم السياسة وشأن الحكومات والبلاط، لكن الأهم أن الوطن سالم معافى، فمن أجل الوطن تهون الصعاب وتذلل العقبات، فلا أعز من الوطن ولا أغلى منه .
ومضت حقبة العهد الجمهوري الأول، وكل نظام انقلابي يسلم الراية لخلفه القادم على أجساد الشعب المنهك، والقرار بيد فرد نصب نفسه قائداً ورائداً وموجهاً وآمراً وناهياً، لا راد لأمره، ولا معترض على قراره، قراره صحيح وإن كان خطأ وأمره نافذاً وإن كان فيه هلاك الأمة، والحصيلة حروب وعدوان وتقتيل وتهجير وعزلة وحصار وجوع وتراجع في الأمن والخدمات، ويحدثونك عن النظام السابق وميزات عهده .
وبعد التغيير الأكبر على يد المحتل الذي اختزل نضالات رجال قدموا المال والولد من أجل نصرة الوطن، تنفس العراقيون الصعداء بقدوم نظام هو الأكثر ديمقراطية في الإقليم، وهو الأول في العهد الجمهوري، ويقيناً أن لكل قادم جديد أنصاراً ومناوئين، ولكل تجربة إيجابياتها وسلبياتها، ولكل منتفعين ومتضررين، فمناصبة العداء للتجربة العراقية الوليدة ليست أمراً مستغرباً، فقد تعرضت تجارب الشعوب الحرة لاستهداف مماثل، فانتقال السلطة وتغير مراكز القوى، وزوال حكام وقدوم جدد ليس أمرا يسيرا، فالسلطان واحد ووعاضيه جيوش لها أول وليس لها آخر، جيوش من اللاهثين وراء تقديم فروض الطاعة للظالم الجائر طمعاً في كسب وده ولن ينالوا هذه الذلة ولو حرصوا، فالذلة يسيره والكرامة شاقة، والورع وعر ومشقة، والتهاوي يسير ميسر، والوطنية تربية وتنشئة والخيانة شيمة
وهوان .
واللافت في استهداف التجربة العراقية تكاتف بعض الداخل المتضرر والخارج من القريب والبعيد، والمستغرب في الاستهداف عدم مراعاة دين أو قيمة أو حرمة، فدم المسيحي والأيزيدي أريق كما دم المسلم، ونال الكرد والتركمان حصتهم من الاستهداف كما أخوانهم العرب، الصغير هدف والكبير مستهدف، المرأة فريسة والرجل غنيمة، العيد مباح والحرم من الشهور مستباح، الشيعي مهدور الدم والسني مستهدف والمسيحي مهّجر والأيزيدي مسبي، ومسلسل الاستهداف صامد قائم، ولم يتقبل العقل المريض والنفس المأزومة الواقع الجديد وإن تظاهرت .
لقد عاش النظام السياسي الجديد أزمة الخلاف البيني الظاهر، فأروقة الخلاف متاحة للإعلام ولا سر فيها، كل يصرح ويزمجر أمام أعلام الصديق والعدو، بل السر متاح من قلب الحدث من دون انتظار ولو حتى بعد انتهاء اللقاء، والحصيلة زيادة في تردي الوضع الأمني وارتفاع معدلات الفقر، وتنامي الشواذ من الظواهر، وانتشار العشوائيات، غير المتعلم عاطل عن العمل، والجامعي يفترش الرصيف، وحامل الشهادة العليا يستجدي الفرصة، والنتيجة ارتفاع مؤشر الانفجار الشعبي إن لم يكن عاجلاً فآجلاً لا محال .
المؤسسة الصحية تراجعت حتى راح القادر وغيره يحمل أوراقه قاصداً الخارج من أجل التطبيب لأبسط الأمراض، بماله أو بالاقتراض، فاعتلال الصحة وتفاقم العلة واستعصاء الشفاء حصيلة التطبيب في المؤسسة الصحية الوطنية .
أما المؤسسة التعليمية فراحت تُخرج أشباه الأميين من جيوش العاطلين، لكن يبقى أسمه جامعي ومتعلم ومن حقه العمل وإن بغير كفاءة فالعيب ليس في المتخرج ولكن في مانح الشهادة والتحصيل الأكاديمي، وهو جزء من التخريب المنظم والاستهداف الممنهج الذي استهدف العراق وبناه التحتية .
ووسط هذا التدحرج والتراجع في كل المستويات، راح الاستقطاب الدولي والإقليمي يلقي بظلاله على المشهد السياسي العراقي، وهذه المرة راح الاستقطاب يهدد بنقل المعركة إلى الأراضي العراقية إن لم يكن عسكرياً فاقتصادياً، فالعراق بموقعه وجغرافيته واقتصاده وعلاقته السياسية ووقوفه وسطاً بين المتصارعين، أضحى جزءاً من المعادلة والاستقطاب .
ويقيناً أن راسم القرار ومتخذه هو المسؤول الأول عن التصدي للأزمة ومواجهتها بحكم المنصب، لكن المشارك بالحكومة والمجلس النيابي من واجبه الاشتراك في الغرم مثلما تشارك الغنم، وهذا شأن النظام البرلماني إجمالاً، والنظام السياسي العراقي تحديداً، فرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الواجهتان الرسميتان للقرار وهما المسؤولان أمام الشعب واليمين الدستورية، لكن من واجب القادة الوقوف صفاً واحداً في مواجهة الأزمة، فالوطن والشعب أولاً وغيرهما يأتي تالياً في المرتبة والأولوية .
الرئيس حامي الدستور، ورئيس الوزراء المسؤول التنفيذي المباشر، والقادة شركاء القرار، فعلى الجميع تناسي الخلاف، والوقوف في الصف من أجل توحيد الموقف ومواجهة الأزمة، فلا شيء أسمى من الوطن، ولا قيمة للقائد ولغيره من دونه، فلا كبير إلا في وطنه، ولا عز إلا في ربوعه، ولا قيمة أسمى منه .
لقد انتفض قصر السلام للوطن، فتصدى للمسؤولية الدستورية والوطنية، وانبرى لمواجهة الأزمة ليكون خط الدفاع الأول، فدعا القادة الشركاء للوقوف صفا واحدا أمام رياح الأزمة التي إن عصفت ريحها لا سمح الله بين الفرقاء المتصارعين، لجاءت آثارها على العراق كما دول الإقليم الأخرى، ويقيناً أن العراق سيكون خاسراً في هذه العاصفة إن لم يكن الأول فسيكون في مقدمة المتضررين، فضلاً عن الدور الوطني القائد الذي عُرف به العراق على مرّ التاريخ وإن غيبه الطغاة لحقبة ليست
قصيرة .
فخرج قصر السلام هذه المرة بقرار موحد في مواجهة الأزمة بعد غياب للتوافق دام سنين، ويقيناً أن هذا القرار سيكون شارعة توحيد القرار الوطني تجاه القضايا الكبرى، بعد أن تقدمت مصلحة القومية والدين والطائفة على الوطن، وراح الوطن في آخر أولويات الشركاء الفرقاء، واللافت في هذه القمة الوطنية أن الجميع انحنى لها احتراماً، شعباً وساسةً وإعلاماً بالرغم من قلة التسريبات التي خرجت عنها، فليست العبرة بالترويج والتهريج والضجة والتهويل، لكن الأمور بنتائجها والأعمال بخواتيهما، فحق على الجميع الإقرار بدور قصر السلام في رسم معالم
السلام .