البؤس والمعرفة.. جدليَّة التأصيل

ثقافة 2024/03/13
...

أحمد أبو ماجن




قد لا يكون الهوس بالمعرفة والتوغل في تمفصلاتها وليد الوعي الفكري للشعوب بقدر ما كان مرافقاً للإنسان منذ النشأة الأولى، إذ تحدثنا الحضارات الأولى وما تركته من أثر في الديانات في ما بعد عن الموقف الإنساني تجاه المعرفة والتضحية إزاء بلوغ مقصدها، ربما كان ذلك بدافع الخطيئة أو الفضول، أو بما يتعلق بالشيزوفرينا الإنسانية وطابع التمرد الفطري. ومن المعلوم أنَّ الله أباح لآدمَ وزوجه ثمار الجنة كلها لكنه استثنى من ذلك شجرة معرفة الخير والشر، المسبب الفعلي للفناء على حد تعبير الكتاب المقدس، إلا أنَّ الحيّة قد رغبت حواء وأغوتها بقولها: (إذن فقد خدعكما الله، لأنَّ ثمرها لا يُسبب الموت، بل يورث الحكمة، إنه يريد أن يبقيكما في جهلٍ مطبق) التكوين/ الإصحاح٣،

 إذن التحريم/ المنع: جاء لما زعمت الحيّة في ادعائها الذي أقنع (حواء) لتقبل الفكرة باندفاع عاطفي لشعورها بالمرتبة الأقل آدمية من آدم، ثم أنَّ آدم لم يكن بالوعي ذاته قبل وبعد ارتكاب الخطيئة، إذ نلحظ في السرديات الدينية أنه كان طائعاً بلا جدال، أي مغيّب العقل تماماً للدرجة التي تجعله يجهل ارتداء الملابس من عدمه حتى، وهذا يتضح في السردية التي تفصح عن تناول آدم وحواء للثمرة المحرمة وبعد ذلك نظرا لبعض فأدركا أنهما عاريان، كانت النظرة الأولى للجسد المجرد أوقعهما في حالة من الدهشة لوضوح التباين الحاد بينهما، وحين حاولا التستر كأول رد فعل واقعي للتعري لم تسمح لهم الأشجار بأن يقطفا أوراقاً منهن كجزء من العقاب على التمرد على أمر الرب، فالشجرة الملعونة/ المعرفة؛ وحدها من وهبت لهما أوراقاً منها للتستر، وقد نص سفر التكوين على وقوع أول عملية اتصال جنسي بينهما بعد حادثة التعري، ربما هو نوع من الإدراك والحضور الفعلي للعقل وغريزة التكاثر، ويمكن القول إنَّ التعري لم يكن بالمعنى المعرفي بقدر ما هو رمزية تحدد نظر الآخر المؤمن للأنا المتمردة، إذ يراها عارية من الرحمة/ النور/ الغفران، وقد تكون رمزية للشعور الإنساني الوجودي للفرد تجاه نفسه وهو يتساءل عن أسباب كينونتهِ، وجودهِ، غايتهِ، بدايتهِ، منتهاه؛ الأسئلة الفلسفية المعقدة تجاه الإله /الكون /البشر، والتيه العميق والعبثية الوجودية في ظل فوضى الإجابات المقترحة، وما يصاحب ذلك من إدراك سوداوي تجاه مفهوم الحياة والعلاقات الاجتماعية يُذهب بالفرد نحو العزلة كما نرى في حياة الفلاسفة والمفكرين الذين التحفوا بهذه النزعة النادرة التي أودت ببعضهم لطلب الخلاص من الحياة/ السجن الفوضوي، وأقول نادرة قياساً بوعي الشعوب الشرق أوسطية، البيئة التي انطلقت منها الديانات التوحيدية الساردة لقصة بدء الخليفة، فنسبة الجهل تكاد تكون الأعم الأشمل قياساً بأصحاب المعرفة/ الوعي الوجودي، فهم أفراد يمكن عدّهم على أصابع اليدين قبالة ملايين من الجهلة المتكئين على وسادة الطاعة العمياء، فالتراث العربي يخبرنا عن بعض أصحاب المعرفة/ العراة، كما يراهم الآخر المطيع، من أمثال أبي العلاء المعري صاحب أعظم نزعة تشاؤمية تجاه الإيديولوجيات التراكمية المترسبة في الفرد العربي، والمؤثرة فعلياً في سلوكهِ وأحكامهِ، إذ يقول:


غير مجدٍ في مِلتي واعتقــــادي 

نــــوحُ بــاكٍ ولا ترنـــــم شـــــادِ


وشبيـــهُ صــوتِ النعــي إذ قيسَ 

بصـــوتِ البشيــــرِ في كلِّ نـــــادِ


تعبٌ كلها الحيـــــاةُ فمــا أعجـب 

إلا مـن راغـــــــــــبٍ في ازديـــادِ


إنّ حزنـــــــاً سـاعـــــةَ المــــــوتِ 

أضعافُ ســرورٍ ســاعـةَ الميلادِ


فأي بؤسٍ أبلغ من هذا، وأي عدمية أقسى، إذ انطوت هذه النزعة على الشعور العقيم بالاغتراب المعريّ تجاه الحياة والناس، وتلاطم أمواج الوجود بالزيف والظلم والفقر، فالحديث عن ذلك ورفضه مخاطرة لا تخلو من القتل، والسكوت انتحار ذاتي، ويقول أيضاً:


وَأَرَحتُ أَولادي فَهُم في نِعمَةِ الـ

عَـدَمِ الَّتـي فَـضَـلَت نَعيمَ العاجِلِ


وَلَو أَنَّهـُم ظَهَـروا لَعـانـوا شِدَّةً

تَرميـهُـمُ فـي مُـتـلِفاتِ هَـواجِـلِ


فالاغتراب يقترن بالمعرفة، ومدى إدراك العالم لضحالة التفكير المجتمعي، إذ يجعله في وادٍ والعالم كله في وادٍ آخر، ومنه قول سيجموند فرويد: إنَّ الهدف من “العلاج النفسي هو مساعدة الشخص على التغلب على البؤس العصابي حتى يتمكن من التعامل مع التعاسة البشرية الطبيعية”. فالنظرة تكاد تكون طبيعية للحياة وسيرورتها وفق هذا الخط المتعرج الذي يلحظه صاحب المعرفة وهو يشخّص ما يدور حوله من علاقات وتصادمات وتآلُف والكثير من التناقضات الجنونية الظاهرة في حيثيات المجتمع، أي أنَّ المجتمع مجرد عينة أو فيلم سينمائي معروف النهاية، إذ يقف المثقف المعرفي موقف المخرج العارف بتفصيلات العمل السينمائي وعليه لا يتأثر بما يدور في الساحة الواقعية فهو قد جَبل ذاتهُ على معرفة المهمات الوجودية نتيجةَ كشف الأوراق والغوص في التابوهات والمسكوت عنه بعيداً عن التقديس الأعمى والرضوخ للأقوال المرصعة، وأصل ذلك يقع على عاتق تفعيل العقل كما رأى الفيلسوف باروخ سبينوزا في أنَّ استخدام العقل بحاجة لإصلاح أنماط التفكير والإدراك، وعليهِ شكّك في أكبر المعتقدات والمسلمات في عصره، وهو كتاب التوراة المقدس، وعلى إثرها اُتهِم بالإلحاد والهرطقة، وطرد من الكنيست بسبب ادعائه أنَّ الله يكمن في الطبيعة فقط، وأنَّ السرديات الدينية ما هي إلا مجازات واستعارات غايتها العظمى أن تعرف طبيعة الله المؤثر عاطفياً، وهذا ما نجده أيضاً في نقد ابن الراوندي مثلاً، حيث شاهد أطفالاً يضربونَ كلباً في الشارع، وحين سألهم عن السبب، قالوا بأنهم وجدوه قد دخلَ المسجد، فقال لهم: اتركوه، فلو كانَ ذا عقلٍ ما دخلَ المسجد. والكثير من المواقف الأخرى وما جرى عليهِ من تجريم أذكى نار المعاناة في حياته كلها. فهذا كلّهُ تعرٍ واضحٌ للنفس المصقولة بالمعرفة وهي تتخذ مساراً مختلفاً عن السائد نجدهُ أيضاً عند الصعاليك العرب أحياناً وعند البوهيميين في الحضارة الغربية، كما قد سيطرت هذه النزعة على الكثير من الأدباء الغربيين؛ إذ اتخذوا من ثيمة البؤس المعرفي طريقاً لتقديم الصورة الإنسانية الواقعية ومن أهمهم الأديب الروسي دوستويفسكي؛ وقد حاز لقب (أبو الرواية المفجعة). 

وصرّح الكاتب سومرست موم في كتابه (على هامش الحياة) عن دوستويفسكي قائلاً: (كلما قرأت دوستويفسكي تمثلت الحياة جدولاً فقد كل صفاته لأنَّ هناك من بصق فيه أو عبث بمائه)، وقال عنه فردريك نيتشه: (إنه أول من علمني شيئاً عن النفس البشرية). وعدّهُ البير كامو المعلم عبر الأجيال في وقت قال عنه الكاتب فوندان: (إنه أول من عبر عن شقاء الضمير في الحياة الإنسانية الحديثة). وعدّهُ كاتب الواقعية الإنجليزية وعلى رأسهم توماس هاردي وسومرست موم أنه (كاتب قلق يتجاوز حدود الحياة إلى كل ما يثير الاشمئزاز واليأس). ويرى جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي الوجودي في كتابه (ما الأدب؟) أنَّ الغموض الذي يسيطر على الكثير من شخصيات أعمال دوستويفسكي هو موضع القوة الحقيقي في جميع أعماله الأدبية، فضلاً عن الكاتب الإيرلندي صامويل بيكيت الذي يقول: (إنه لا شيء مثيراً للضحك والسخرية أفضل من البؤس، السخرية غير الخالية من المرارة). 

كذلك الكاتب الروماني أميل سيوران الذي يقول: (لستُ ذلك الذي يعاني في العالَم، بل العالم يعاني في داخلي)، ويقول أيضاً: (الطريقة الوحيدة لمواجهة الخيبات المتوالية، هي أن يعشق المرء فكرة الخيبة نفسها. إذا أفلح المرء في ذلك؛ لا يعود يفاجئه شيء، يسمو فوق كل ما يحدث، يصبح الضحية التي لا تقهر). فهذه الرؤى لم تكن إلهاماً كتابياً فحسب بقدر ما كانت انعكاساً واقعياً لحياتهم بل وتبلورت عنها أمراضٌ معقدة في أجسادهم كما يصف ذلك أبو بكر العيادي في كتاب (أمراض الأدب القاتلة) والنهايات المأساوية لكل من (مارسيل بروست ودوستويفسكي وكافكا ونيتشه وجان ريفرزي وفريتز رورن ومالكوم لاوري وموباسان وجول غينكور وجيرار نرفال ووليام بروز وتوماس مان.... وغيرهم)، إذ يذكر أنَّ الكشوفات الطبية أكدت أنهم كانوا جميعاً مصابين بأمراض مزمنة، ومما لا شك فيهِ أنَّ حرفة الأدب والانشغال بالإبداع والكتابة عموما تتولد عنها المتاعب والأوجاع وتدخلان اضطراباً على نسق الحياة، على الرغم من أنَّ الأمر أراه مختلفاً تماماً فالأمراض هي المولد الفعلي للكتابة، والمرض بصيغته النفسية أقصد، لأنَّ الكاتب عموماً يرى العالم من منظوره الشخصي، المنظور اليائس، الكئيب، العبثي تجاه الوجود ككل، حسب التحليل النفسي لتلك الشخصيات التي أحدثت ثورة غاية في الأهمية في مسيرة التاريخ الأدبي العالمي، وهذا يمكن حصره في مفهوم التعرّي المعرفي الذي أصبح ذا نطاق واسع ليشمل في دُرجهِ القرّاء النهمين أو الذين تعرضوا لصدمات ومواقف واقعية تجعلهم يعيدون النظر في وجودهم الفعلي، فينتج عن ذلك جلد للذات والوقوف موقف الرفض تجاه المسلمات الاجتماعية على الرغم من تصنيف هذا الفعل ضمن خانة الأمراض النفسية، بالنتيجة أصبح تصوراً طبيعياً لحيرة الإنسان المختبئ خلف ستار المعرفة امتداداً جوهرياً لتجريب آدم وزوجه وهما يزيلان عن وجودهما ثوب الخضوع الثابت والانفتاح على متاهات الأسئلة الوجودية المتجسدة ضمن نطاق المعرفة الحركية التي تنظر للكون والعالم نظرةَ شزرٍ تسخّف الغاية منها، إن وُجِدت لها غاية أصلاً.