د.عبد الواحد مشعل
من يقرأ الدبلوماسية الإسرائيلية قراءة محايدة يجد سفرا سياسيا وقانونيا في طريقة إدارة الصراع الخارجي، وكيفية التعامل مع المسائل قيد الاختلاف والصراع، وذلك كله بنسق عالي المستوى بحيث لا تقع الدبلوماسية في مجرى السياسة المتغيرة مع لعبة الانتخابات بين اليمين واليسار, انها ترتكز على دعائم الكيان الإسرائيلي ولاسيما في خطه السياسي والدبلوماسي الذي يصب بكامله بخدمة (إسرائيل)،وقد تمكنت تلك الدبلوماسية من تطوير أدواتها وطرق تعاملها بطريقة منهجية وعلمية تفتقر لمثلها كثير من الدبلوماسيات العربية.
وإذا أردنا أن نبني أو نؤسس تصوراً نظرياً حول الفكر الدبلوماسي أو السياسي الإسرائيلي وطرق معاملاته عربيا وإقليميا ودوليا مستمدين أصول ذلك من الفكر السياسي الغربي، لاسيما في مجال العلاقات الدولية, نجد أيضا ان هذه الدبلوماسية قد وضعت أسسها النظرية على فكرة الديمقراطية الليبرالية التي انتهجها الغرب على وفق تصورات متجددة في بيئة تكاد تكون مختلفة ثقافيا وأيكلوجيا عن بيئة الدبلوماسية الغربية, وبهذا المعنى فان خصوصية الدبلوماسية الإسرائيلية التي تشكلت في مثل هذه البيئة (البيئة الشرقية من حيث طبيعة أنماط الحكم والأنساق الثقافية السائدة والمتفاعلة معها) وضعت بنفسها قواعد للعمل الدبلوماسي المستقل عن الإيديولوجيات و الاتجاهات المتصارعة داخل النظام الإسرائيلي, بحيث بقيت هذه الدبلوماسية مؤسسة مستقلة تؤدي دورها بعيدا عن تأثيرات الأشخاص أو الرؤى المتغيرة على الساحة. بحيث بقيت تقاليد هذه الدبلوماسية تدور في فلك خدمة هذا الكيان بكل ما تمتلك من إرادة، لاسيما وإنها تمارس أدوارها وسط ثقافة تكاد أن تكون تقليدية وتقاليد ومتقاطعة معها.
تعتمد هذه الدبلوماسية على توقعات يمكن أن تكون علامات ومؤشرات على حصول تغيرات وتبدلات في نمط الثقافة السائدة، لاسيما بعد سلسلة من الأزمات والحروب والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة التي تعصف بالمنطقة فضلا عن وجود سلطة العولمة التي باتت تدخل في كل منزل ومؤسسة وهي تبث ثقافة جديدة تختلف عن نمط الثقافة الكلية المعتادة للبيئة الشرقية محفزة بذلك ثقافات فرعية ناشئة ضمن مفهوم ما يسمى الاثنيات الثقافية المتعددة وما يمكن أن يرتبط ذلك بتوقع تغير في ثقافة الأجيال الجديدة . وهي ثقافات قد تقبل بمشاركة( إسرائيل) في عالم شرق أوسطي جديد تكون فيه إسرائيل متقدمة علميا وتكنولوجيا ودبلوماسيا على غيرها من دول المنطقة على حسب ما تروج الى ذلك بعض النظم العربية وهي تتقاطع مع الاتجاهات القومية والثورية لصالح ثقافة جديدة وفلسفة جديدة تتبناها بعض دول المنطقة ليفيد منها الكيان الإسرائيلي, على حساب شعوب المنطقة وقد أفادت من ذلك الدبلوماسية الإسرائيلية الآخذة بالاتساع بعد اعتراف دول المواجهة بكيانها، ليكون لهذا العمل الدبلوماسي مشروعيته في دول مثل تركيا وامتداده في أفريقيا وآسيا ويشكل انحسار علاقاتها القديمة مع إيران الشاه منهجا جديدا لإدارة صراعها مع قوى تعدها معادية لها عن طريق فرض طوق على علاقات إيران بدول آسيوية أخرى في مناطق بحر قزوين ومناطق الاتحاد السوفيتي السابق وعلى أساس من فكرة إسرائيل الدائمة تتم عملية العمل الدبلوماسي تلك ،مرتبطة بالاقتصاد باعتباره يمثل القاعدة المركزية في التحولات الثقافية والسياسية حاضرا ومستقبلا , ومن هنا يمكن الاستفادة من دروس الأزمات المالية الحالية وربما المستقبلية في تشكيل نمط جديد من العلاقات الدبلوماسية مع العالم بما فيها العالم العربي وإذا كانت أصوات المعارضة تتعالى لمثل هذا التحرك من جانب حركات إسلامية ويسارية ووطنية فان هذا التحرك الدبلوماسي والفعل الإعلامي والثوري ينقصه كثير من الأسس العلمية والمنهجية الحديثة كي يتعامل مع قضايا أساسية وجوهرية تتعامل بها الدبلوماسية الإسرائيلية, وتتركز نقاط الضعف في خطاب المعترضين في عدم قدرة اتجاهاتهم على حل مشكلاتهم السياسية والاجتماعية والتاريخية والقفز عليها في سبيل الوصول الى مفهوم جديد واحد يحفظ الوجود ويحقق النهضة. ويزيل الخلافات الثنائية فيما بينها، وعدم قدرة هؤلاء على تحقيق ذلك هو الذي يجعل إسرائيل بدبلوماسيتها الدؤوب تمثل دور المستفيد الأول من تناقضات تلك الحركات، وعليه فان فهم الدبلوماسية الإسرائيلية و قدرتها على إدارة الصراع مع القضية الفلسطينية ودول المواجهة العربية وإدارة الصراع في منطقة الخليج العربي وإدارة الصراع في المحيط الإقليمي العربي ومحاولة كهذه ستعطينا فكرة واضحة عن ماهية هذه الدبلوماسية في سياق فهم أصول وفن العلاقات الدولية الراهنة.
وبالمقابل فان الدبلوماسية العربية تحكمها عقلية النمط التقليدي الذي ينظر الى مصالح نظمها على وفق إرادة الحاكم، ما أفضى ذلك الى كثير من التعقيد في تعاملاتها الإقليمية والدولية ، وهي تعيش أزمات متفاقمة، قد تكون أداة مشجعة لأي إضرار تلحق بالمنططة العربية مستقبلا وما تشهده الساحة الإقليمية العربية من صراع محتدم اليوم، تبقى الدبلوماسية العربية غير قادرة على حل المشكلات الإقليمية والتي تتدخل فيها قوى إقليمية ودولية متصارعة ،إذ تبقى معركة الدبلوماسية العربية مع كل الإطراف غير قادرة على تجاوز الأزمات ،وهي ما تتغلب علية الدبلوماسية الإسرائيلية في بيئتها المحلية على وفق مصالحها وفي رسم مستقبل كيانها تحت هوان النظام العربي الرسمي. والخروج من هذه اللازمة يتطلب من الدبلوماسية العربية اختيار منهجية معرفية تكون قادرة على إدارة الأزمات نحو السلم وتنمية العلاقات الإقليمية العربية لصالح البلدان العربية ، وهو يمكن أن يقود الى ترسيخ مهنيتها ودورها على وفق مصالحها الحيوية ،ولعل أولها حل أزمة علاقات بلدانها مع بعضها البعض وفك الاشتباك بعيدا عن النظرة الضيقة التي تسيّر هذه الأزمات، ووضع المنطقة العربية في موقف معقد قد تكون مخاطره المستقبلية أصعب واعقد من ما تعيشيه بلدان المنطقة في ظروفها الحالية.