رزاق عداي
كل الاحتلالات منذ التاريخ القديم ولغاية اليوم تحتاج ال غطاء ايديولوجي يسوقها ويوفر لها مسوغات على الاكثر زائفة ومقنعة، بغية الحصول على المقبولية لفترة ما، لا تلبث أن تنكشف حقيقتها، جرى هذا في عصور الامبراطوريات الكبيرة عبر التبشير والفتوحات، أو في زمن دول العصر الحديث، وحتى نكون قريبين من تفكيك هذه الظاهرة (الاستعمارية) سنتوسع في سردها مقارنة بتنامي وتطورها الكبير في حقبة النظام الراسمالي
وهذا يستدعي التذكير بالتوسع في الانتاج السلعي الكبير، والحاجة الملحة لتسويق وترويج الزيادة في الانتاج، فنمو الظاهرة شديد الارتباط بهذا التوسع الهائل في بنية النظام الراسمالي، فهذا الاخير (التوسع في الانتاج الكبير)، يحتاج إلى اسواق هي الاخرى كبيرة لاحتوائه، بالاضافة إلى الحاجة الماسة للمواد الاولية واليد العاملة الرخيصة، فمحدودية الاسواق المحلية للبلدان الصناعية دفعت إلى البحث عن أسواق أخرى خارجية، ودون ذلك سيتعرض النظام الراسمالي إلى الازمات المتنوعة، أو قد تقود إلى الانهيار أو حتى الثورة، وهذا ما عول عليه (ماركس) في حتمية حصول الثورة أو التغير في انماط الانتاج في النظام الراسمالي، محددا اياها بدقة، فهو يرى انه عندما تتقدم قوى الانتاج على علاقات الانتاج، تحل الازمة التي تقود إلى الثورة، والتي هي نتيجة حتمية لأزمات النظام الراسمالي ذاته، ولكن فاعلية هذه القراءة ومصداقية تحققها تتم في مجريات النشاط الاقتصادي للبلد الواحد في حدوده القومية فقط. ولكن الماكنة الايديولوجية الراسمالية كانت اكثر ديناميكية في العثور على منافذ ومخلصات من الازمات عن طريق توسيع الظاهرة الاستعمارية، ومن خلالها تمكنت من فك الازمات وترحيلها نحو بلدان اخرى تتم السيطرة عليها عن طريق
الاحتلال. كانت - المانيا - في فترة صعودها الرأسمالي الاول لا تملك مستعمرات لتصريف منتجاتها الصناعية، ولكن تطورها السريع اللاحق وتحقيق وحدتها في فترة حكم - بسمارك، تمكنت من احراز تقدم ساحق صناعيا قياسا مع الدول الاوربية. الاخرى، فكانت الاحصائيات تشير إلى ان انتاجية العامل الالماني بدات تتفوق على كل انتاجيات العالم الراسمالي انذاك، وصار ازاء هذا التراكم السلعي ان الامور ذاهبة نحو ازمة، مما استدعت الحاجة إلى وضع الاستراتيجيات والخطط من قبل المراكز العسكرية الالمانية، ومثلت هذه المنظورات مقدمات ومناهج سعت المانيا إلى تنفيذها خلال الحرب العالمية الاولى، اما التمهيد الذي يسبق الأهداف والأجندات الاستعمارية، يبرز الجهد الأيديولوجي كغطاء ضروري، فالظاهرة الاستعمارية عندما توسعت لم تدع وتعلن بانها ذات مسعى استيطاني، أو انها. لجات لهذا الاسلوب بغية السيطرة ولاستغلال لموارد الشعوب، انما العكس، فالدعوات كانت مبطنة بخطابات فحواها الاخذ بيد الشعوب نحو التحرر والتطور والحداثة، منطلقة من مركزية أوربية تعتبر نفسها أنها المصدر الاول للتنوير والحداثة، وهي مسؤولة عن نشرها في عموم العالم، وحادثة احتلال (نابليون) لمصر في نهاية القرن الثامن عشر قبل ان يصبح امبراطورا، ولما كان ملهما بافكار التنوير الاوربيي، كان يدعي انه يحمل رسالة تنويرية لشعوب متخلفة ومسيطر عليها، لذلك كانت حملته العسكرية معززة بفريق من العلماء والخبراء في شتى نواحي الحياة، وظل هذا الغطاء الأيديولوجي مع كل الاحتلالات اللاحقة، فرسالة الجنرال (مود) قائد الجيوش الانكليزية التي احتلت العراق في عام 1917، كانت تتضمن هذا المعنى، اذ ادعى انه جاء محررا وليس محتلا.
إن أيديولوجيا الاحتلال التقليدية وحتى الراهنة تتمثل في ان اي دولة تحقق انتصارا أو تقدما اي من المضامير، تعتقد ان ما بلغته هو التعبير عن النموذج الذي ينبغي الاقتداء به عن طريق الاقناع الايديولوجي، أو خلاف ذلك باستخدام القوة والاحتلال. فأمريكا؛ راودها وتلبسها الشعور بالقوة والهيمنة الدولية، عندما تفكك الاتحاد السوفيتي، وكانت مراكزها الاعلامية والاستراتيجية تعمل بحماس للترويج أن النمط الليبرالي هو من تطابق مع الطبيعة والتاريخ، إلى الدرجة التي حدت بأصحاب النفوذ والسيطرة في البنتاغون إلى الدعوة إلى تصدير النموذج الأمريكي الليبرالي الديمقراطي، فكان العراق حاضرا بما تتوفر به جملة من المواصفات التي وجدوها مطابقة مع الرغبة الامريكية. والحقيقة أن احتلال العراق عسكريا في 2003، تعتبر حالة شاذة، في مجال التوقيت، لأن الاحتلال العسكري ماعاد اسلوبا مناسبا في مرحلة العولمة، لذلك حاولت الولايات المتحدة أن تتذرع للوهلة الاولى بمسوغات واهية، لم تسعفها بعد حين، فأذعنت لاحقا للاعتراف بكونها دولة محتلة منصاعة لقرار اممي، فترتبت عليها مسؤولية الاحتلال وما لحق بذلك،.