تعليم النخبة وتجهيل العامة

آراء 2024/03/24
...








 حسب الله يحيى

ظاهرة لافتة للنظر تتعلق هذه المرة بالتعلم والتعليم.. وهي ظاهرة من اخطر واسوأ ما نواجهه راهنا، وذلك لما تسببه من أخطار وسلبيات وكوارث أخطرها الجريمة والفساد والمخدرات.
التعلم والتعليم..هما القاعدة الأساسية للمعرفة، ومن ثم للسلوك القويم، على العكس من الجهل، الذي يقود صاحبه إلى كل ما هو سلبي سلوكا وعيشا.
لذلك بادرت اليابان مثلا إلى إيلاء الأهمية الأولى للتعلم والتعليم بعد خروجها من كوارث الحرب، وجعلت من التعليم السبيل الأهم لتوعية الناس وبناء السلام والتوجه للعلم.
ومعظم بلدان العالم المتحضرة اليوم خالية من الأمية، ليس باتقان القراءة والكتابة وحسب؛ وإنما الجهل الآن يعني الجهل باستخدام الحاسبة والأجهزة الالكترونية، وما يعني ذلك من التعليم الذاتي واتساع رقعته في معرفة كل ما يحيط بنا.
إلا أن ما نشهده اليوم في حياتنا، هو هذا المرفق الحيوي والمهم والمهمل من قبل أجهزة الدولة، إلى جانب إهمال الناس كذلك.
وبات التعليم ينحدر إلى أدنى مستوياته، بسبب غياب المناهج والكتب والمدارس وحتى المعلم/ التربوي الملتزم.
صار التعليم الرسمي، لافتة مجردة من المحتوى، وغاب الدرس، حيث صار المعلم في الابتدائية مثلما في الجامعة ؛ مجرد حديث عابر وقضاء وقت وغياب من قبل الطلبة وأسرة التعليم كذلك.
وأصبحت الدعوة إلى الدروس الخصوصية والمدارس والكليات والمعاهد الاهلية.. هي التي تأخذ الصدارة في الاهتمام، وبات (النجاح) مضموما مادامت أجور التعليم محفوظة.
وبتنا نؤكد قول أبي حيان التوحيدي الوارد في مؤلفه (الامتاع والمؤانسة)، والذي ذهب فيه إلى «التحريض على عدم تعليم العامة، لأن ذلك يعد تهديدا للطبقة السائدة».
مثلما حرَّم الغزالي على العامة الاشتغال بعلم الكلام، لأن هذا العلم خاص بالطبقة الغنية والمتسيدة على رقاب الناس! نعم أصبح بمقدور الأغنياء وذوي الجاه والسلطة تعليم أبنائهم داخل وخارج العراق، وضمان مستقبلهم الذهبي بالمال تحت يافطة علم لا يفقهونه ومعرفة لا يجيدون الحديث فيها.
وتحتفظ الذاكرة بصورة معلم الابتدائية، ذاك الذي كان يقسو على تلميذ مجد ومجتهد ويعاقبه يوميا، من دون سبب وحين سئل المعلم عن الأسباب الموجبة في هذا الأسلوب الخشن والجائر مع هذا التلميذ بعينه أجاب:
هذا التلميذ نصراني، وهؤلاء النصارى حريصون على تعليم أبنائهم، الذين سيكون لهم شأن في المستقبل، وأنا أريد أن يمل ويترك المدرسة، بدلا من أن يكون طبيبا يكشف عن زوجتي وابنتي أو مهندسا يبني بيتي على ذوقه الغربي.
بهذه العقلية الفجة والعفنة كان يتصرف واحد ممن يمتهن التعلم والتعليم.  صحيح أنه حالة فردية لا نقيس عليها، ولكن امثالها ما زال موجودا. وهناك من يتقاعس في مهنيته لاحتواء ذوي الدخل العالي من تلاميذه ولا عليه من الطلبة الفقراء.
لذلك نجد أن الطبقة المسحوقة لم تعد مسحوقة اقتصاديا حسب؛ وإنما أصبحت مسحوقة في وعيها والجهل (ثقافة) تمارس ليتقنها عدد من الناس.
هذه الطبقة من المجتمع تعيش في أدنى مستوياتها من الجهل والفاقة والمرض، ولو تيسرت لمن يبددون أوقاتهم بالثرثرة الانصراف، لبعض الوقت وقراءة رواية لتوني موريسون بعنوان (الجاز)، لتبينا عن طريقها أن الاستعمار كان يحرم على السود شيئان هما:
تعلم القراءة واستعمال الآلات الموسيقية، أما أسباب حرمانهم من التعلم، فإن سببه الأهم هو أن التعلم والتعليم سيقودان صاحبهما إلى معرفة بالقوانين، وهذه المعرفة بالقوانين ستجعلهم يدركون معنى الحرية، فيطالبون بها ويناضلون من أجل نيلها.
اما حرمانهم من الموسيقى فسببه أن الموسيقى؛ ليست مجرد عزف وغناء وأناشيد ورقصات؛ ففي وراء كل هذا، هناك رسائل (شفرات) تؤديها الموسيقا مضادة للمعتقدات الظلامية السائدة مثلما هي سبيل من سبل الرقي في الذائقة والتعامل مع العالم بشفافية وتحضر وجمال وإحساس عميق بالأشياء.
من هنا ندرك تماما أن التعلم والتعليم، يفترض أن يأخذا الأولوية من اهتمام المؤسسات وأجهزة الدولة كافة، وألا نترك امية الصغار الذين كبروا وباتت عملية محو الامية عند الكبار في غياب تام، بعد ان اهملت العملية التربوية للصغار وانصرافهم عن المدارس، التي لم يعودوا يتعلمون فيها شيئا، حتى اصبح الطالب الجامعي لا يتقن كتابة جملة مفيدة من دون أخطاء ليصبح بعدئذ شخصية  مسؤولة.
« مدام يملك مالا» وأن يتولى قيادة المجتمع حاضرا ومستقبلا.. الامر الذي يؤدي إلى مزيد من الامية على الأصعدة كافة. الامر يتطلب الحسم والتوجه الكامل لتفعيل التعليم الالزامي ومحو امية الكبار والعمل على إيلاء التعلم والتعليم الأهمية القصوى، لكي يكون المجتمع بكامله لا لطبقة بعينها والزام من يمارس مهنة التعليم ممارستها بشكل متقن وحقيقي ومخلص، ذلك أن المجتمعات المتحضرة لا يمكن أن تبنى في ظل جهل مدقع وفاقة وامراض تنوء بالبشر. التعلم والتعليم مفتاح لكل ما هو ضروري واساسي لبناء الحياة الآمنة والسعيدة والمتحضرة.