مايكل روبن
  ترجمة: أنيس الصفار

لدى خصوم الولايات المتحدة اساليبهم المعقدة، فهم يدرسون التقويم الزمني السياسي لأميركا ثم يزامنون عملياتهم مع اوقات انشغال أميركا وانصرافها لشؤونها. فكلا الغزو الروسي لجورجيا في العام 2008 وهجوم أذربيجان على «ناغورنو- كرباخ» في العام 2020 وقعا في توافق مع موسم الانتخابات
الأميركية

حقيقية بديهية توالت عبر الإدارات الأميركية تباعاً وهي ان الأزمات غير المتوقعة كانت دائماً السمة المحددة لإرث السياسة الخارجية. فبالنسبة لجيمي كارتر كانت هناك الثورة الإسلامية في إيران والغزو السوفييتي لأفغانستان، أما «رونالد ريغان»، فقد وجد نفسه يواجه تفجير ثكنة قوات مشاة البحرية في لبنان الذي أعقبه بعامين الانسحاب المذل من هناك. بالنسبة لـجورج بوش الأب كان هناك الغزو العراقي للكويت، في حين واجه «بيل كلنتون» ازمة «سقوط طائرة بلاك هوك» في الصومال وحروب البلقان اللاحقة. أما هجمات 11 أيلول 2001 فقذفت بجورج بوش الإبن الى أتون حربين في افغانستان والعراق، ثم جاء «باراك أوباما» ومعه وعد بأن ينهي «الحروب الغبية»، لكن ما فعله لم يقتصر على إعادة القوات الأميركية الى العراق والبقاء في افغانستان بل انه انضم ايضاً الى حروب ليبيا وسوريا.
كان دونالد ترامب أول رئيس أميركي منذ عهد كارتر لا يورط قواته في صراعات جديدة، لكن «كوفيد» والحزب الشيوعي الصيني غيرا معالم رئاسته.
لقد خاض «جو بايدن» الانتخابات جاعلاً من سياسته الخارجية اوراق اعتماده مدعياً أن «الدبلوماسية عادت» بينما اعلنت حاضنته السياسية «أن الكبار عادوا الى مواقع المسؤولية». أما الآن، ومع اقتراب ولاية بايدن من نهايتها، فإننا نرى ان الحروب وليس السلام هي التي تحدد معالم رئاسته. لكن ما انسحابه من افغانستان كان هزيمة لا ريب فيها، ورغم أن بايدن لا يتحمل اللوم عن طموح الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» بالتحديد فإن ما ابداه من استعداد لتقبل الإذلال والتخلي عن افغانستان كان له دوره المؤثر في قرار بوتين بغزو أوكرانيا.
إرث بايدن في الشرق الأوسط سيكون هزيلاً كذلك، فقبل ايام فقط من هجوم حماس الذي اشعل المنطقة كان مستشار الأمن القومي «جيك سوليفان» قد اشاد بدبلوماسية بايدن بجعله منطقة الشرق الأوسط «أهداً اليوم مما كانت عليه طيلة عقدين» على حد تعبيره. قد تنتهي الحرب ولكن ارتجاجاتها ستبقى تعكر المنطقة لسنوات مقبلة، وهذه الحروب ربما لا تزال في بدايتها . فما دام تهديد ايران مستمراً في التمدد حتى القارة القطبية الجنوبية سيبقى النظام الليبرالي عرضة للهجوم في كل قارات العالم.

فنزويلا بمواجهة غويانا
انقضت اكثر من اربعة عقود منذ ان تفجّرت الحرب العابرة للحدود الوطنية في أميركا الجنوبية. ففي العام 1982 استلهم الدكتاتور الارجنتيني الجنرال «ليوبولدو غالتييري» صفحة من سيرة الدكتاتورات الفاشلين في مختلف انحاء العالم تقول: اختلق صراعاً واشغل جماهيرك بالمغالاة الشوفينية الوطنية. كان الاقتصاد يعاني من فوضى كارثية، لذا اعاد اشعال المطالبات الخامدة بخصوص جزر فوكلاند الخاضعة لحكم البريطانيين منذ نحو 150 عاماً. كانت حسابات غالتييري قد خلصت الى أن المملكة المتحدة، التي اعيتها الانشقاقات الداخلية، لم تعد تمتلك الإرادة للدفاع عن بضعة آلاف من مربي الاغنام في اقصى اقاصي حدود امبراطوريتها، ولكنه كان مخطئاً إذ حشدت رئيسة الوزراء «مارغريت ثاتشر» له وتمكنت من الحاق هزيمة منكرة بالارجنتين.
اليوم يعيد النمط نفسه، لكن الطرف الذي تخضع قوة جلده للامتحان هو البيت الابيض وليس 10 داوننغ ستريت. فالاشتراكية قد أحالت فنزويلا، التي كانت ذات يوم اغنى دولة في أميركا الجنوبية، الى واحدة من افقرها. ولأن الرئيس «نيكولاس مادورو» لا يحظى بجاذبية تذكر وليس له من الاصدقاء سوى قلة قليلة، عمد هو الاخر الى استلهام صفحة من سجل غالتييري فأعاد احياء النزاع المناطقي الذي سبق لفنزويلا ان حسمته قبل اكثر من قرن مضى ثم أعادت التأكيد عليه قبل نصف قرن. مطالبة مادورو بمنطقة إيسكويبو التابعة لغويانا لا سند لها ولا أساس، لأن هذه الأراضي كانت هولندية قبل ان تتخلى عنها هولندا لبريطانيا خلال مؤتمر فيينا سنة 1815 لإنشاء غويانا البريطانية وهي لم تكن يوماً تابعة لفنزويلا.
في العام 2009 عندما كان مادورو نائباً للرئيس أعاد احياء هذا الادعاء بشكل عابر، وكان في ذلك الوقت مجرد تهديد أجوف. لكنه اليوم قد لا يكون كذلك، لأن الأوضاع في فنزويلا قد انتكست الى الأسوأ بصورة استثنائية، وقد دعم مادورو مؤخرا إجراء عملية استفتاء للبرهان على قوة الدعم الشعبي لاستخدام الجيش الفنزويلي في الاستيلاء على منطقة إيسكويبو الغنية بالنفط. ورغم أن فريق بايدن قد ادان ذلك التحرك وارسل بعض القوات الى غويانا على وجه السرعة للقيام بتدريبات مشتركة فإن اهتمام البيت الأبيض كان مشتتاً. ثم ارسل البيت الأبيض السيناتور «جون فاينر»، نائب سوليفان وكبير مبعوثيه، للتعهد بتقديم الدعم لغويانا. مع ذلك، وبعد اسبوع واحد فقط، عاد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي «جون كيربي» ليقلل من أهمية تحركات القوات الفنزويلية معتبراً إياها «ضئيلة الشأن من حيث الطبيعة والحجم والنطاق والمنظور».
موقف كيربي يعكس واقع تعلل البيت الأبيض بالتمنيات، حيث تظهر صور الاقمار الاصطناعية استعدادات عسكرية فنزويلية مثيرة للانتباه. وخلال اجتماعه بوزير الخارجية الروسي الزائر «سيرغي لافروف» الأخير بدرت عن مادورو اشارة عبر فيها عن رغبته بمقابلة بوتين بعد الانتخابات الروسية، ومن المحتمل جداً ان يطلب مادورو الحصول على ضوء أخضر.
إذا ما اصدر مادورو اوامره بدخول قواته الى غويانا فقد لا تستطيع الأخيرة فعل الكثير لإيقافه، لأن تعداد جيشها لا يزيد على 3400 رجل، أي ما يعادل حجم قوة الشرطة في العاصمة واشنطن. وخلافاً لحالة أوكرانيا ليس من الواضح هنا إن كانت غويانا ستقاتل، أو ان كانت الولايات المتحدة ستشارك عسكرياً، برغم تأكيدات فاينر. فمع ان الدفاع عن المنشآت النفطية البحرية التابعة لغويانا سيكون اسهل قد تقود الحسابات مادورو الى الاعتقاد بأنه يستطيع إرغام شركة «إكسون موبيل» على تعليق عملياتها أو جعل البيت الأبيض ينحني امام الضغط، فهذا هو عين ما فعله كلا المبعوث الخاص «آموس هوشتاين» بشأن مطالبات لبنان البحرية الواسعة ووزير الخارجية «أنتوني بلينكن» حين وعد تركيا بالسلاح رغم انها كانت تضاعف مطالباتها غير المشروعة بالمياه القبرصية.

أذربيجان بمواجهة أرمينيا
غويانا ليست الدولة الصغيرة الوحيدة الواقعة تحت التهديد، والغزو الروسي لأوكرانيا قد لا يكون آخر حرب في أوروبا تشهدها فترة ولاية بايدن. لقد تولى بايدن المنصب وهو يعد بالاعتراف بحملة إبادة الأرمن، وخلافاً لمن سبقوه مضى بتنفيذ وعده وهذه تحسب له. لا شك أن اكثر من مليون أرمني قد فقدوا حياتهم خلال الحرب العالمية الأولى وفي أعقابها مباشرة، وبرغم كل ما تدرسه مدرسة «برنارد لويس» للدراسات التركية في الولايات المتحدة ضمن مناهجها فإن موت هؤلاء  لم يحدث نتيجة لـ «ضباب الحرب» بل لأن حركة «الأتراك الشباب» خططت لعملية الإبادة الجماعية ثم نفذتها. ورغم كل تهديدات الرئيس رجب طيب اردوغان كانت تركيا نمراً من ورق، وعندما اعترفت الدول تباعاً بجريمة الإبادة لم تفعل تركيا شيئاً.
(ملاحظة: حركة الأتراك الشباب– أو تركيا الفتاة - حركة إصلاحية سياسية ظهرت مطلع القرن العشرين بهدف استبدال الملكية المطلقة للسلطنة العثمانية بحكومة دستورية وقادت تمردًا ضد الحكم المطلق للسلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908– المترجم)
لكن فريق بايدن اعتقد، لسوء الحظ، ان بإمكانه ان يلعب اللعبة على الجانبين. فبعد يومين فقط من اعتراف بايدن بالابادة الجماعية للأرمن أعرض بلينكن عن توجيه عقوبات الى اذربيجان رغم هجومها قبل ذلك بأشهر على المجتمعات الأرمنية التي يمتد عمرها لآلاف السنين في «ناغورنو- كرباخ». ادعاء اذربيجان بتبعية «ناغورنو- كرباخ» لها لا يبرر قيامها بعمل عسكري ضدها، كما ان سيادة اذربيجان على «ناغورنو- كرباخ» ليست امراً مسلماً به كما يزعم المؤيدون.
قبل الاستيلاء على «ناغورنو- كرباخ» في ايلول 2023 صدرت عن الرئيس الاذربيجاني إلهام علييف إشارات بأن هدفه يتمثل في اجتاث الأرمن من «ناغورنو- كرباخ» واحتلال أرمينيا على اساس أن أرمينيا الحالية هي الجزء الغربي من أذربيجان.
ففي 24 كانون الأول 2022 أعلن علييف أن «أرمينيا الحالية أرض تابعة لبلاده. لعل علييف حسب انه قادر على ارتكاب الفعلة ثم النجاة من عواقبها نظراً لخواء الخطوط الحمر التي تضعها وزارة الخارجية الأميركية. فقبل ذلك بأربعة أيام، على سبيل المثال، كان علييف قد أمر قواته باستكمال عملية التطهير العرقي في «ناغورنو- كرباخ»، لكن «يوري كيم» القائمة بأعمال مساعد وزير الخارجية أعلنت ان الولايات المتحدة لن تتهاون ازاء اي هجوم يقع على شعب «ناغورنو- كرباخ»، إلا أن التهاون كان عين ما فعلته.
تأتي عدوانية علييف متناسبة مع درجة إيمانه بقدرته على ارتكاب الفعل دون تحمل العواقب، ثم زاد بلينكن وسوليفان الطين بلة باندفاعهما المتسرع نحو السلام. ارغام ارمينيا الديمقراطية على تقديم التنازلات والسماح لعلييف بتجنب ترسيم الحدود بين اذربيجان وأرمينية، في حين يعمل هو على بناء حشد عسكري بقيمة عدة مليارات الدولارات، ستضمن كلها تجدد النزاع وقد تدفع علييف الى الاعتقاد بأنه يستطيع اجتياح أرمينيا.

الكونغو بمواجهة رواندا واثيوبيا بمواجهة الصومال
تحجّر سياسة وزارة الخارجية الأميركية هو الذي دفع بالقرن الأفريقي ومنطقة البحيرات العظمى في افريقيا الى حافة الحرب، وما كان يفترض أن ينتهي الأمر الى مثل هذا المآل. دولة أرض الصومال ورواندا معجزتان افريقيتان، حيث تمكن بنو اسحاق في ارض الصومال والتوتسي في رواندا من النجاة من الابادة الجماعية ثم نهضا وهما أقوى ليتحولا الى واحتين اقليميتين. اما دولة ارض الصومال فقد اصبحت اول دولة في العالم تنجح بتأمين سجلات الناخبين عن طريق المسح البايومتري لقزحية العين.
في هذه المنطقة التي تعد متراخية في جانب القلق الأمني تعتبر ارض الصومال ورواندا نموذجين استثنائيين. كلتا الدولتان ضيقتا الفرص امام نشاط الارهابيين ومهربي الاسلحة والجماعات المتشددة المسلحة والقوات العسكرية الاجنبية، وكلتاهما تستضيفان شركات واستثمارات بمليارات الدولارات، وميناء بربرا الصومالي قد يضاهي وينافس ميناء جيبوتي وحتى ميناء جبل علي في دبي. اما رواندا فقد تحولت الى وادي سليكون افريقيا. كلتا الدولتين تعتبران من اعظم قصص نجاح العالم في حربهما ضد الفساد، ورواندا اليوم ترقى الى مصاف سلوفاكيا وبولندا واليونان في ما يتعلق بتدني مستويات الفساد، بينما تعد جارتيها بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية من بين اشد دول العالم فساداً. كما أن اقتصاد الصومال الرقمي يتيح الشفافية.
إلا ان جيران هاتين الدولتين اخذوا يهددونهما. فقد حصلت دولة ارض الصومال على استقلالها في العام 1960، وبعد فشل محاولتها للاندماج مع جمهورية الصومال اعادت اعلان استقلالها في العام 1991. وإذ طبعت حادثة «سقوط طائرة بلاك هوك» صورة الفشل والفوضى في الصومال بأحرف من نار عميقاً لدى المخيلة الأميركية بقيت دولة ارض الصومال تنعم بالسلام. الديمقراطية وقدرات الحكومة أمران لهما اهميتهما، فعندما اصاب الجفاف منطقة القرن الأفريقي خلال الاعوام 2006 و2011 و2017 عانى الصوماليون اشد المعاناة، لكن اثيوبيا وارض الصومال تضامنتا، وأخذتا تنقلان الغذاء الى حيث كان الاهالي بأمس الحاجة اليه فأنقذتا حياة مواطنيهما. أخبرني المسؤولون الحكوميون المحليون أن معظم سكان ارض الصومال آنذاك نجوا من المجاعة بفضل قدرتهم على نقل المواد الغذائية الى أبعد نقطة في البلاد، دون خوف من التعرض لأعمال السلب والنهب.
بيد ان امراء الحرب الصوماليين ليسوا ببعيدين. فعن طريق استغلال مليارات الدولارات من المساعدات اشترت مقاديشو اسلحة صينية وطائرات مسيرة تركية. وفي كانون الأول 2022 دعمت الصين انتفاضة محلية في محافظة «سول» التابعة لأرض الصومال كعقوبة لها بسبب تفضيلها تايوان على الصين.
كذلك التهديدات التي تتعرض لها رواندا اليوم، فجذورها مغروسة في اعمال الابادة الجماعية التي وقعت اواخر القرن العشرين. كل ما عرفه الأميركيون عن تلك الابادة الجماعية ضد التوتسي في رواندا التقطوه من فيلم هوليوود «فندق رواندا»، لكن قلة منهم فقط تعلم حقيقة ما جرى بعد ذلك من احداث. فعندما سيطرت الجبهة الوطنية الرواندية على كيغالي وطردت مرتكبي المجازر الجماعية من الهوتو، المدعومين من فرنسا، عبر الحدود الى جمهورية الكونغو الديمقراطية استمر الصراع.
هنا تتحمل الأمم المتحدة اللوم، فقد سمحت لمرتكبي اعمال الإبادة الجماعية بإقامة مخيمات لهم على مرمى البصر من الحدود الرواندية. وفي العام 2021 وخلال جولة استطلاعية للحدود الرواندية الكونغولية من «غوما» صعوداً باتجاه الشمال لعدة عشرات من الكيلومترات، وكان الدخان المتصاعد من مخيمات المتمردين على بعد ثلاثة كيلومترات لا غير واضحا للعيان جدا. وهكذا قوض مرتكبو المجازر الجماعية من الهوتو الاستقرار في شرق الكونغو. وكانت نتيجة ذلك ان بقيت منطقة البحيرات العظمى الافريقية برميل بارود مثل منطقة القرن الأفريقي. عندئذ دخل فريق بايدن حاملاً عود ثقاب. ففي حين كانت الولايات المتحدة تتعامل ذات يوم مع القضية بين جمهورية الصومال ودولة ارض الصومال على اساس سياسة «دولة واحدة بنظامين»، كما تفعل مع الصين، يتعامل بلينكن مع ارض الصومال اليوم تعامله مع دولة منبوذة استرضاء للصومال. ومن خلال اعطائها الاشارة، بإطلاق الدعم الأعمى للصومال شجعت واشنطن الانتقاميين الصوماليين على انتهاج اسلوب القوة.
تصدياً لمحاولات الولايات المتحدة استرضاء معذبيها لجأت أرض الصومال الى اثيوبيا، فعقدت صفقة تؤجر ارض الصومال بموجبها اثيوبيا، التي لا تمتلك اية منافذ الى البحر، ميناء مقابل اعترافها بها. لكن وزارة الخارجية الأميركية أدانت هذه الصفقة دأباً منها على نهجها، ويرى كثيرون في مقاديشو أن تلك الإدانة ضوء اخضر للتحرك عسكرياً. واليوم تلوح بوادر المعركة على مرمى حجر عبر باب المندب حيث يهاجم الحوثيون حركة الشحن البحري العالمي.
تواجه رواندا هي الاخرى حرباً سببها ضعف الكفاءة الأميركية. فجمهورية الكونغو الديمقراطية هي ثاني أكبر دولة افريقية من حيث المساحة، وكان المفروض من الناحية النظرية ان تكون واحدة من بين أغناها بفضل ثروتها من المعادن الستراتيجية التي تحتضنها حدودها والتي تصل قيمتها الى 24 ترليون دولار. بيد ان عقوداً من الحروب والحكم الدكتاتوري كانت لها اعباؤها، وكان الثمن هو موت اكثر من خمسة ملايين شخص. يلقي كثير من الكونغوليين باللائمة على رواندا لأن التقاعس عن نزع اسلحة مليشيات الهوتو ومحاولات الحكومة الكونغولية لاحتواء مرتكبي جرائم الابادة الجماعية واسترضاءهم كانت من بين الاسباب المحفزة على نشوب القتال.
عندها جاء دور «مايكل هامر»، الذي كان الى وقت قريب سفيراً أميركيا لدى الكونغو الديمقراطية. يقول الدبلوماسيون في المنطقة انه مارس ضغوطاً على واشنطن للقبول بإنهاء الشرط الملزم الذي فرضته عليها الأمم المتحدة بالإبلاغ عن مشترياتها العسكرية، طمعاً منه بكسب الحظوة لدى الزعماء المحليين خلال فترة عمله في كينشاسا. وبحلول حزيران 2022 تمت الموافقة على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2641 بموافقة على مضض من جانب الولايات المتحدة، وبه أسقط ذلك الشرط. ثم انطلق الرئيس «فيلكس تشيسكيدي» في جولة تسوق مموهة توافقت مع دوره في السياسات العرقية شرق الكونغو، وهي حقيقة اقر بها الجانبان خلال رحلات التحقيق البحثية الى كيغالي وكينشاسا.
خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية وصل الى مدينة غوما الواقعة شرق الكونغو، نحو 1200 مرتزق تابعين لشركتين هما «أغيميرا» ومقرها بلغاريا و»أسوشياتيا – رالف» ومقرها رومانيا، وهم منتشرون حالياً في مختلف انحاء المنطقة. كما افادت مصادر محلية ان نحو 200 مرتزق وصلوا الى غوما وانتقلوا منها الى «بوكافو» بالقوارب. ولاحقا حطت في غوما طائرة بوينغ 737 قادمة من بوخارست عاصمة رومانيا عبر الأقصر المصرية لتعزيز الانتشار الموجود واجراء مناوبة للمتعاقدين الخصوصيين. وكان «إريك برنس» مؤسس شركة «بلاك واتر» موجود في الكونغو  هو الاخر.
يتولى المرتزقة تدريب قناصة قوات الكونغو الديمقراطية واستكمال إعداد القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، التي انبثقت من بين صفوف مرتكبي أعمال الإبادة الجماعية المنفيين. ويقدم المرتزقة المساعدة ايضاً لتدريب الجيش الكونغولي على تشغيل الطائرات المسيرة التي اشتراها مؤخراً وكثير منها صيني المنشأ. إذ ينهمك الكونغو ببناء حشد عسكري لا سابق له يلقي بلينكن و»سامنثا باور»، من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بدلاً من ذلك باللوم على الضحية ويكيلان الانتقادات الى رواندا. كل ذلك قد يدفع تشيسكيدي الى الاعتقاد بأن واشنطن مستعدة لغض الطرف عن الكونغو اذا ما أقدم على الهجوم. اضافة الى ذلك اختلطت الرؤية لديه فلم يعد يميز بين امتلاك منصات متقدمة والكفاءة العسكرية الفعلية. لقد خلقت المعدات الصينية الجديدة، الى جانب تشجيع وزارة الخارجية الذي كان في غير موضعه، ظروفا مثالية للتحول الى حرب مستقبلية.

في عين العاصفة
لدى خصوم الولايات المتحدة اساليبهم المعقدة، فهم يدرسون التقويم الزمني السياسي لأميركا ثم يزامنون عملياتهم مع اوقات انشغال أميركا وانصرافها لشؤونها. فكلا الغزو الروسي لجورجيا سنة 2008 وهجوم أذربيجان على «ناغورنو- كرباخ» سنة 2020 وقعا في توافق مع موسم الانتخابات الأميركية. ومع تبلور الحملة الانتخابية للعام 2024 ها هو الخطر يلوح في الأفق. لقد شجعت الشكوك المحيطة بالقيادة الأميركية الحكام السلطويين على الاعتقاد بأن الحرب يمكن ان تكون مجدية. قوى الايثار لن تنجح في ملء فراغات القيادة، وبايدن قد يكون على وشك تعلم هذا الدرس بالطريقة الصعبة.

 مجلة{ذي ناشنال إنتريست} الأميركية