صورة «الآخر» وتنامي صراع الهويات الفرعية

ثقافة 2019/05/29
...

علي المرهج
 
 
صورة الآخر هي ليست الآخر (كما يقول الطاهر لبيب). صورة الآخر بناء في المخيال وفي الخطاب”. لذلك فمفهوم الذت الآخر هو من اختراع الذات، لا بمعنى إنكار وجوده الواقعي، وإنما وجوده هو وجود تصوري “ من وحي المُخيَلة “مُخيَلة 
الأنا”.
من النادر القليل أن ترى الذات في الآخر خيارها الإيجابي في الوجود وفي التكامل المعرفي، وأغلب الأمم تُعاني من تضخم النظرة للذات “القومية” أو “الوطنية” أو “الدينية” وتحصيل الحاصل”الطائفية”، وكلما ازدادت الذات تضخماً، إزداد حضور “الآخر”، في الغالب سلباً، إن كان هذا “الآخر” مُغايراً للذات في المعتقد الأيديولوجي أو الديني أو الطائفي، ويكون الحضور إيجابياً في حال كان هذا “الآخر” مُتماهياً مع مقولات “الأنا” المتضخمة أو مُدرك لسيكالوجيتها المرضية القائمة على النظر للذات بوصفها أكثر نقاءً في الأصل “الوجود” وفي “المعرفة” وإدراكها للـ “اليقين”.
هذا الوعي المتضخم للذات هو الذي أنتج ما يُسمى “الهويات الفرعية” التي تأتي كرد فعل للمارس الاقصائية للذات الشمولية التي تدعي أو يتبنى دُعاتها مقولة “الاصطفاء” ووصف الجماعة الذين هم منها أنها “شعب الله المُختار” أو “سُفن النجاة” من الذين اصطفتهم الإرادة الإلهية، أو اقتضت وجودهم “الحتمية التاريخية” ليكونوا “المخلصين” أو مُلًاك الحقيقة ورُبَانيي “سفينة النجاة”، و أصحاب “الفرقة الناجية” بالمفهوم الإسلامي، الذي تجسد في خطاب بعض الحركات واالأحزاب الدينية مثل “حزب الله”.
وقد وظف هذه الرؤية كثير من الأحزاب العلمانية ومنها الأحزاب (القوموية) التي  صيَر بعض مُنظَريها حزبهم بمصاف “الحزب القائد” وأن قائد الحزب والدولة هو الحاكم الفليسوف أو الفيلسوف الحاكم أو “القائد الضرورة” الذي أنجبه التاريخ كي يكون “المخلص” للأمة العربية من هيمنة الاستعمار والتبعية 
للغرب!!.
الجدير بالذكر أن هذه المفكرة تختلف في مضانَها عن فكرة “البطل” الفرد، أو دور الأبطال في التاريخ، لأنك في التاريخ شواهد لها، ولكن هذا (البطل) لا يُمثل حزباً بعينه، ولا يُدافع عن جماعة بعينها ويُقصي جماعة أخرى، ولا يُعامل مواطنيه على أنهم في مراتب هرمية، فهُناك الكثير من هؤلاء القادة في التاريخ العربي والإسلامي والدولي من الذين آثروا على أنفسهم واتخذوا من أنفسهم أضاحي من أجل تحقيق الحرية لشعوبهم.
من أمثال هؤلاء هُناك مُصلحون ومنهم الأنبياء، ومُفكرون إحيائيون من أمثال “كونفشيوس” و “لاوتزه” و”مارتن لوثر” و “أراسموس” و “مارتن لوثر كنك”، و “الأفغاني و”محمد عبده” و “الكواكبي، وآخرون. وهُناك قادة سياسيون أمثال: “غاندي” و “نلسن ماندلا” و “جيفارا” و “لنكولن” و” عبدالناصر” وآخرون. وهُناك فلاسسفة أمثال: “جون لوك” و “كانت” و “جان جاك روسو” و “فولتير”، وماركس.
وهؤلاء وغيرهم كُثر ممن تنطق عليه صفة “البطل التاريخي” من الذين غيَروا تاريخ أمم بكاملها بتخليصها من تشضي الهوية والتكور حول “الهوية الفرعية” إلى الإنتماء للـ “الهوية الوطنية” والحُلم ببناء هوية أشمل ألا وهي “الهوية القومية” ومن ثم “الهوية الإنسانية” بحثاً عن مُجتمع إنساني أفضل.
لكن فكرة “القائد الضرورة” هي على النقيض من ذلك، فيها تصنيف لهذا القائد هذا على أنه خُلق من طينة غير طينة بني البشر من أبناء جلدته، وهو يفوقهم بدرجات من حيث القوة والحكمة التي حباها الله له دون غيره من البشر، على قاعدة التصنيف الإفلاطوني الثلاثي للناس على أن بعضهم خُلق من (ذهب) وآخرون من (فضة) وغيرهم من (النُحاس)، لذا سيكون الحاكم هو وجماعته من الصنف الأول وباقي الناس بدرجات حسب صيغة الولاء له ولجماعته لا للوطن، فهو الوطن والوطن هو، فيُشبه نفسه بالأولياء والأنبياء، ويُسمي نفسه بأسماء الله الحُسنى!. 
إن مثل هكذا رؤية تدفع باتجاه تنمية “الهويات الفرعية”، للمستوى الذي يجعل منها هوية مُباينة لـ “الهوية الوطنية” تحت مظلة “الأنظمة الشمولية”، فبدل من أن تبني هذه الأنظمة ذات الطابع “التوتالتاري” في الحكم وطناً ذا بُعد قومي، غيبت “الهوية الوطنية” بامتدادها القومي، فصار البعض يبحث عن مُماثلات لـ “هويته الفرعية” خارج حدود الوطن كي يحتمي بها، ولربما نكون سدَها المنيع ضدَ كل من لا يرتضي لرؤييتها الأيديولوجية وجوداً، الأمر الذي أدى إلى غياب “الوعي المواطني”، فتخلت بعض الأقليات عن انتمائها “الأثني” لا لقناعة منها بأيديولوجيا “الحزب القائد”، بل لأنها لن تجد لها موطئ قدم في المُشاركة في إدارة الدولة إن لم تُعلن ولائها للحزب والقائد، وإن كان فيهم بعض الشخصيات مؤثرة، فليس لأنها لها القُدَرة على أن تُعلن ولائها الوطني أو القومي أو الديني أو الطائفي، بل لأنهم أمعنوا  في القساوة على أبناء جنسهم لصالح تحقيق وتنفيذ مرامي “الحزب القئد” و”القائد الضرورة”!.
إن وعي الهوية المتضخم يؤدي بالضرورة إلى تنامي “الهويات الفرعية”، وكلما إزدادت “الذات المُهيمنة” تعالياً، ازدادت “الهويات الفرعية” عناداً في إعلانها عن وجودها سواء أ كان هذا الوجود يُمكن تحققه بالمماثلة أو بالرفض والممانعة، وستزداد “الهويات الفرعية” تماسكاً كلما ازدادت “الذات الشمولية” الحاكمة توهماً بأنها تمتلك آليات “الخلاص” بوصفها المالكة للحق والوصية على تطبيقه، لتبحث “الهوية الفرعية” عن تشاكل هوياتي لها خارج المُحيط الجُغرافي والتفاعل الاجتماعي “المواطني”، بل خارج هيمنة السلطة الحاكمة “التوتاليتارية”.
إن خطاب “الأنا” أو الذات “المُتضخمة” ينتج بالضرورة خطاباً مُغايراً، يجعل “الآخر” ضداً نوعياً يُهدد وجود “الأنا”، كما هو حاصل اليوم في في خطاب القومويين والإسلامويين، و “المتفرنجين”، بعبارة علي 
الوردي.