يعدُّ القاص حميد الزاملي واحدا من كتَّاب القصة الذين ظهروا بعد عام 2003م ، بشكل لافت، على الرغم من أنّه من مواليد الخمسينيات، لكنه لم يعرف عنه كتابة القصة، بل سيرته الأدبية تشير إلى إنَّه كتب الشعر، وأصدر مجموعته الشعرية الأولى عام 2002م ، ثمَّ مجموعته الشعرية الثانية عام 2007م، ولكنه بعد ذلك تبدل مزاجُهُ الأدبيُّ، فشغف بكتابة القصة، فأصدر أولَ مجموعةٍ قصصيَّةٍ عام 2003م عن دار الشؤون الثقافية العامة بغداد وهي ( الهجرة إلى مملكة الثلج)، وفي العام نفسِهِ أصدر مجموعتَهُ الثانيةَ( عودة اللقلق)، ثم أصدر مجموعتَه الثالثةَ( قبوط هتلر) عام 2015م، وجاءت مجموعتُه الرابعةُ ( آخر الأخبار)، إلى جانب مشاركته في مجموعتين أخرتين هما: ( هنا نلتقي، وثنائيات).
أما نحن – الآن- فبصدد قراءة مجموعته الثالثة( قبوط هتلر) الصادرة عن دار نشر عدنان/ بغداد، 2015م، إذ كانت ظلالُ الحربِ/ ظلالُ السلطةِ مهيمنة على هذه المجموعة، بدءًا من عنوانها؛ إذ يدرك القارئ، ماذا يعني له ( هتلر) فهو رمز السلطة المتجبرة الديكتاتورية، وهو معادل موضوعي للحالة التي كان يعيشها العراق قبل التغيير السياسي عام 2003م.
لقد هيمنت الحرب على معظم قصص ( قبوط هلتر)؛وإن لم نشهد أثرًا ماديَّا لها، من مثل: حضور (الخنادق والجنود)، فقد عشنا اسقاطاتها عل الشخصية العراقية، فضلًا عن حضور الحصار وما تسبب في ضيق الحال عند العراقيين، والنفي والهجرة، وهو ما جعل معجم شخصيات الزاملي مليئًا بألفاظ الحرب وأدواتها مثل: المسدس، والدبابة، والسيف ،وغير ذلك. وهو ما تجسَّد في قصة (يبحثون عن الخلود) التي تسرد حكاية النفي، وما نتج عنه، فقد طرأ تغييرٌ واضحٌ على سلوكِهم بإزاء مشاهداتهم التي لم تعد كما كانت في الماضي، لذلك شعروا باغتراب واضح عن مجتمعهم، فكانت نهايتهم فجعة.
وفي قصة ( قبوط هتلر)، فإن اسم (هتلر) وحده يحيل إلى الحرب، وتداعياتها؛ إذ تقف شخصياتها على جانب من حياة المهاجرين أيام الحصار في تسعينيات القرن الماضي، وعملهم ببيع (البالات) الملابس القديمة، فالقبوط الألماني ذي الازرار الفضية، كان المحور/ الموضوع الذي دارت حوله القصة كلها، لكن في النهاية، اكتشف أن هذا القبوط لا يمتُ لهتلر بصلة ولا غوغول ولا لمالك شركة المارسيدس، بل هو لأحد الممسوسين المدمنين.
وفي قصة ( حفنة تراب) المنشورة في المجموعة نفسها ، نجد أنها تدور حول الشهادة والشهيد؛ إذ يستهلها الراوي بالقول:” كانت صدورُهم المثقوبةُ بالرصاص تبدو كما لو أنها خرائط حمراء داكنة تميلُ إلى السوادِ، خلتهم يتوحدون بطقوس فضية، وكفوفهم مملؤة بالندى...”
وهو لا يعالجها على وفق المنظور الديني، ولا المنظور الاجتماعي، بل من منظور أدبي النص.
وقد امتزجت أجواء الحرب بأجواء السلطة، والخوف الذي تكلس فوق صدور العراقيين آنذاك، ولأن العراقَ سجنٌ كبيرٌ، فإن الحريةَ كانت غاية منشودة، فلم يجد الزاملي الا البلبل ليعبر به عن شغفه بالحرية التي افتقدها في السنوات الماضية، وهو يقيم مقاربة بينه وبين البليل الحبيس في قفصه، فالخروج من القفص لا يعني الحرية بالنسبة له، بسبب سياسة التكميم التي جعلت كلَّ شيءٍ من حوله محاطًا بأسوار وجدران، وهو رمز لطالما استعمله الشعراء في الإفصاح عن حريتهم المفقودة.
وهو ما جسدته قصة ( إنه الخريف يا أمي) . فعلى الرغم من غربة البطل وحياته الجديدة لكن معجمه لا يخلو من كلمات الحرب والحصار، لأنه لم يستطع أن يغادر حياته الأولى فقد بقي مشدودًا إلى أمِه وبيتِه القديم والطرقات، وحتى رسالته الاخيرة ، لم تجده نفعًا، فقد تغيَّر كلُّ شيء، ومات الأم، وعادت الرسالة إليه ثانية، وهي تؤكد حالة الفقد والامحاء. ومن الموضوعات التي تتصل بالحرب، حكايات السجناء عن التحقيق، وهو ما عبرت عنه قصةُ ( رسالة إلى نضال)، فضابط التحقيق هو الشخصية الراكزة في مخيلة السجناء، وهو يظهر دائمًا في أوقات معينة حاملًا عصًا طويلةً، وهو بدينٌ وأمردُ الوجهِ، وهو يرددُ السؤالَ الأزليَّ: أجبني أيَّها الخائن. والقصة كلها تتحدث عن ذلك، مع الإفادة من قصة الرسالة التي كتبها لنضال، وهي تتحدث إليه أكثرُ مما تتحدثُ إلى نضال نفسه.
وظاهر – هنا- أن هذه القصة قد مثلت حالة الخوف الذي كان يمثلها رجل السلطة( الضابط)، فما عصاه إلا رمز للقهر الذي يعاني منه أكثر أبناء الشعب العراقي وقتذاك. وقد تمثل ذلك المضمون في قصص أخرى مثل: اغتيال العميد،
وغيرها.
وأخيرًا يمكن القول: إن هذه المجموعة هي طفرة نوعية في منجز القاص حميد الزاملي، على مستوى البناء، والأسلوب والتقنيات، التي يمكن أن تدرس في مقال آخر. وهو أمر يلمسه كلُّ مَن تابعَ المنجزَ القصصيَّ له.