عقلانية الخيال العلمي

ثقافة 2019/05/29
...

جمال جمعة
 
ينبع العلم والشعر من أرض واحدة تقع جغرافياً خارج حدود العقل: الفانتازيا. كلاهما ينطلقان من وهم فكرة لإعادة تشكيل العالم وفق نسق غير معقول، على الأقل خلال الزمن الذي تنبثق فيه، فإذا كان الشاعر يطلق شوارده تلك على شكل “قصيدة”، تنبثق الفكرة ذاتها في مخيال العالم تحت تسمية “افتراض” أو “نظرية”، غالباً ما تتلقفها الصناعة السينمائية لتحولها إلى واقع افتراضي كما حدث في أفلام وأعمال تلفزيونية عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر المسلسل التلفزيوني الشهير (ستار ترك) الذي يتحدث عن جولة سفينة “الأنتربرايز” في الفضاء الخارجي بحثاً عن حيوات أخرى، أو فلم (رحلة إلى القمر) ،و (حرب النجوم)، و (كوكب القردة) وغيرها من أفلام الخيال العلمي المثيرة. فقد شغلت فكرة السفر إلى الفضاء وتخيلها ذهن الإنسان منذ انتصب على قدميه وشرع يتطلع نحو تلك الأضواء اللماعة المتراقصة في السماء حيث نجد إصداء تلك الفكرة في الأساطير البشرية الأولى على أرض الرافدين، وأولها ملحمة جلجامش الخالدة.
يشير الباحث السويسري إريك فون دانكن مؤلف الكتابين المثيرين: (عربات الإلهة Chariots of the Gods) و (الآلهة كانوا رواد فضاء The Gods Were Astronauts)، إلى الوصف العجائبي لتحليق أنكيدو في الفضاء متعلقاً بالمخالب البرونزية لأحد النسور كما ورد في اللوح السابع للملحمة: (قال لي “انظرْ إلى الأرض كيف تبدو لك؟ انظر إلى البحر كيف يبدو لك”، وكانت الأرض مثل جبل، وكان الجبل مثل بحيرة. ثم حلق مرة أخرى لمدة أربع ساعات وقال لي “انظر إلى الأرض ماذا تشبه؟ انظر إلى البحر كيف يبدو لك؟”، وكانت الأرض مثل بستان وكان البحر مثل قناة الماء التي يستخدمها البستاني. وعاود التحليق لمدة أربع ساعات اخرى ثم قال “انظر إلى الأرض كيف تبدو لك؟ انظر إلى البحر كيف يبدو لك؟”، وكانت الأرض مثل العصيدة وكان البحر مثل جرن الماء). إن هذا الوصف، يقول دانيكن، لا يمكن صدوره إلا من كائن حي شاهد الأرض من على ارتفاع شاهق، فالوصف بالغ الدقة بحيث لا يدع مجالاً للظن بأنه نتاج خيال محض!
فالأسطورة رغم شاعريتها فإنها، حسب تعريف كارين ارمسترونغ، علوم الأوائل التي تجد امتثالاً لها الآن بما يعرف بأفلام الخيال العلمي Science fiction، الوريث المستقبلي للأسطورة، التي مهدت لابتكار العديد من الاختراعات والتوجه نحو آفاق جديدة في العلم. فالعديد من الاكتشافات العلمية التي نراها بها الآن لم تكن إلا خيالاً شعرياً لا وجود له إلا في الأساطير وأفلام الخيال العلمي قبل عقود. كثيرون منا يجهل أن التلفون النقال (الهويتف) الذي ننعم به الآن إنما ندين بوجوده للمسلسل الفضائي (ستار ترك Star Trek) الذي أوحى للمخترع مارتن كوبر بفكرة الاتصال الهاتفي بموبايل نقال يحمله رواد سفينة الانتربرايز للتواصل فيما بينهم من دون الاستعانة بسلك توصيل. كما أن فكرة انتقال الأجسام التي ظهرت فيه وتكررت في فيلمي (الذبابة The Fly) و (الترميناتور The Terminator) أفلح العلماء في تحقيقها إلى حد ما بعد إعلانهم عن نجاحهم في نقل ذرة من مكان إلى آخر. فكرة منظومة الاقمار الاصطناعية التي تقدم لنا الآن خدمات متنوعة كالاتصال والبث التلفزيوني، وحتى التجسس، اقترحها الكاتب البريطاني آرثر سي كلارك عام 1945 قبل إطلاق قمر “سبوتنك Sputnik” الروسي بأكثر من عشر سنين. كما شغلت فكرة السفر عبر الزمن والعوالم المختلفة مساحات كبيرة من الأدب العالمي، ابتداءاً من (رحلات السندباد السبع) في ألف ليلة وليلة، ومروراً برحلات جوليفر Gulliver’s Travels، التي كتبها الأديب الإنجليزي جوناثان سويفت، وليس انتهاءاً برواية جي أتش ويلز (آلة الزمن The Time Machine). ومن يتأمل قصيدة الزهاوي (بعد ألف عام) التي كتبها مطلع القرن الماضي يقف مشدوهاً أمام سيل النبوءات العلمية التي افترضها لمجتمعه المتخيل الذي يجد نفسه فيه بعد 1000 عام، من ذلك إشارته إلى “التدوين الرقمي”:
وللقوم شيءٌ كالفُنُغراف عندنا /  يُدوّن فيه كلّ قولٍ ويُسمعُ
أو إلى الاتصال عبر “الإنترنيت”:
يرى بعضهم بعضاً ويسمعُ صوتهُ /  وبينهما الأرضُ القصيّةُ تفصلُ
وهناك نبوءات علمية عديدة بين طيات هذه الملحمة الشعرية العظيمة أنجزها العلم أو يسعى إلى انجازها حالياً، كالتواصل بين الكواكب، تحويل الجنس، القدرة على الاختفاء، الاتصال التخاطري وما إلى ذلك.  
فهل سيمكّننا العلم من السفر عبر الزمن مستقبلاً؟ نعم، هذا ما يقوله الشعر.