نسرين البخشونجي
من السهل أن تكون إنسانا جديدا لأن العودة لنقطة البداية تكلفنا الكثير، التيه وانقضاء العمر على أقل تقدير. فبطلة رواية “صندوق صغير في القلب” ظلت تحارب ثلاثية الوحدة والحنين والقهر، تحاول بكل وعي الفرار من خيباتها دون أن تصل إلى شيء. فأحداث الرواية تنتهي من حيث بدأت إلا أن “مريم” فقدت شبابها وعمرها.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول هي الحي القديم، الرحيل، الحنين. تدور أحداث كل فصل منهم في زمان ومكان مختلف. تحن “مريم” بطلة الرواية إلى الماضي دائما فنجدها في فصل “ الحي القديم” تحكي فيه الكاتبة عن ماضي “مريم” الحي الذي تربت فيه، حيث تعايش فيه الجيران رغم اختلاف دياناتهم وجنسياتهم. بالنسبة لمريم كان هذا الزمن مثاليا ورائعا لذلك لم تحب بيتهم الجديد في الشارع الواسع النظيف الهاديء وظلت تعيش مع جدتها. وحين ذهبت مع “سعيد” للحي القديم للمرة الأولى منذ سنوات، ألمها أن لا تجده كما تركته، حيث تبدلت ملامح المكان وتغيرت كثيرا.
شاركنا “مريم” في الفصل الثاني “الرحيل” حزنها على فراق الأحبة، بين وفاة الأب والأم والجدة، سفر الأخ إلى الخليج وسفرالأخت أيضا مع زوجها، ثم سفر الحبيب إلى أمريكا للدراسة ثم سفرها إلى إحدى الدول العربية بحثا عن الرزق بعدما فشلت في إيجاد عمل في مصر. يمكننا أن نعتبر أن بيت “عزيز” الرجل الفلسطيني بمثابة العودة للحي القديم بالنسبة لمريم، فبيته الذي سمي مجازا بـ “المطار” حيث يتوافد الأصدقاء من جنسيات عربية مختلفة، وهناك في “المطار” تعرفت على عدد من اللاجئين السياسيين والمثقفين العرب، ومن خلال لقاءاتهم ناقشت الروائية إبتهال سالم القضية الفلسطينية بالإضافة إلى مشاكل الإنسان العربي خاصة مسألة حرية التعبير عن الرأي.
في الفصل الثالث والأخير “الحنين” تعود مريم إلى الوطن، تعود بذات المشاعر والأفكار ولكن هيئتها تغييرت بعدما زحف الشيب إلى شعرها. تعود بحثا في ماضيها، تسترجع ذكريات الطفولة، تنظر للصور وكأنها تراها للمرة الأولى، صورة جماعية لكل سكان العقار. “وها أنت..والحوائط تحاصرك في بيت الجدة، والحنين يشدك إلى صدر دافيء يضمك”.
الرواية ترصد التغير السلبي الذي حدث في المجتمع المصري، وكأن شخصية “مريم” رمز لمصر نفسها. فمقهى “ماري” الذي كان يساهم أصحابه بدور مناهض للإحتلال الإنجليزى من خلال “حمامة” الذي كان يتباهى بكونه يبيع خمرا مغشوشا للضباط الإنجليز ويخبئ الشباب المصري الفارين من رصاص الانجليز أثناء المظاهارات وكانت زوجته ماري تساعده رغم أنها غير مصرية لأنها اعتبرت مصر وطنا بديلا. لكن “مقهى ماري” تحول إلى مكان لبيع المخدرات بعد وفاتهما، في إشارة لغياب الوعي لدى بعض الشباب المصري.” ها هو البوكس، يتدافع خارجه جنود الشرطة، يقتحم الضباط المقهى وخلفه عساكره، يقلبون المناضد والنرجيلات، ويضربون المساطيل على قفاهم، ويركلونهم خارج المقهى، ليكوموهم في البوكس وعلى رأسهم “سيد” ابن حمامه والوريث الوحيد للمقهى.”
اختارات الكاتبة عنونا يلخص أحداث روايتها “صندوق صغير في القلب” فالقلب هو المكان الذي نحمل فيه ذكراياتنا دون أن نخشى ضياعها، وهو المكان الذي لا يتغير ولا يتبدل مثلما تتبدل الأمكنة والأزمنة. دمجت إبتهال سالم اللغة العربية الفصحى مع اللهجات العامية في الحوار بين أبطال النص وهو ما أضاف الكثير للنص السردي.
صدرت الرواية عن الهيئة العامة للكتاب ضمن مشروع مكتبة الأسرة عام 2004 أبحرت بنا كاتبتها في عصر الإنفتاح الإقتصادي بمصر وبداية سفر أفراد من الشعب على اختلاف وظائفهم وأعمارهم إلى دول الخليج بحثا عن العمل . لذلك يمكن للقارئ أن يعتبر أن الكاتبة إبتهال سالم عبرت عن رأيها السياسي ومشكلات أبناء جيلها في هذه الرواية كأبنة لجيل السبعينيات، ربما لذلك استخدمت في نصها السردي ضمير” المخاطب” وكأنها تواجه نفسها/ أبناء جيلها بكل الأحلام، الأفكار والحزن.
“ تفرين من زمنك الضيق، ومن نزف الروح تتساءلين:
- “امرأة رديئة أنت أم زمن رديء؟ أم تراك للمرة الألف على حصان خاسر تراهنين؟”