من كولومبوس إلى أيامنا هذه

آراء 2019/05/29
...

علاء هاشم
 
رغم أنّ الأحداث الجارية حولنا تحيلنا بوضوح إلى فشل نموذج الليبرالية الرأسمالية بشكل محبط، خصوصاً مع صعود الأنظمة الشعبوية واليمينية، في مطلع القرن الواحد والعشرين، ألا أنَّ الفشل الفعلي كان قد سبق ذلك بكثير، وحسب الفيلسوف الأميركي المعروف نعوم تشومسكي، الذي يصر على أن مسألة انهيار هذا الحلم، أبعد زمنياً وأكثر تعقيدًا من نتائج الانتخابات الأوروبية والأميركية في السنوات الأخيرة. مع أنَّ البعض يحاول تبرير هذا الفشل بكونه مرتبطا بصعود النيوليبرالية، التي سلطت اهتمامها على الربح أكثر من أي شيء آخر، وأدخلت العالم في مرحلة من الكساد، عزّز التفاوت الاقتصادي بين الدول التي حظيت بامتياز العالم الأول وبين دول العالم الثالث. يَعتبر نعوم تشومسكي أنَّ النيوليبرالية تغاضت بوضوح عن نزعات لا ديمقراطية داخل الانتخابات والمؤسسات القومية، بل جعلت من إجراء الانتخابات بشكل حر أمرا مستعصيا، نتيجة حملات الدعاية والبروباغاندا التي تتدخل فيها الشركات الكبرى، من خلال دعم المرشحين الذين يحققون مصالحها. ويذهب تشومسكي إلى أبعد من ذلك ليؤكد أنّ الإمبراطوريتين الانكلوساكسونيتين (إنكلترا، وبعدها الولايات المتحدة الأميركية) الليبراليتين من الخارج تملكان في جوهرهما، الأكثر استتاراً، “نظاماً مافيوياً”. ويلاحظ أنَّ هذا النوع من النظام ظهر في أميركا مع استعمارها من قبل القراصنة والبروتستانت، حيث وصل قراصنة شمال أميركا حتى بحر العرب في أواخر القرن السابع 
عشر. ربما يمكّننا العنوان “501 سنة الغزو مستمر”، من أن نقف على شيء من طبيعة الكتاب، حيث انتهى الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي من تأليف كتابه هذا في عام 1993 وبذلك فإن سنة 501 تعيدنا إلى العام 1492، وهو العام الذي اكتشف فيه كريستوف كولومبوس تلك القارة. ويسوق تشومسكي في الكتاب معلومات مكثّفة ضمن منظور تاريخي مديد هو حصيلة السنوات الخمسمائة التي أعقبت رحلات كولومبس، امتداداً إلى الآن والنتيجة هي عدم تغير دور الولايات المتحدة في الهيمنة والإخضاع على مر السنين، وبالحقيقة أنَّ ما يقيمه في هذا الكتاب هو موازاة بين الإبادة الجماعية زمن الاستعمار وبين القتل والاستغلال المرتبطان بإمبريالية اليوم. تغير العنوان وبقي المضمون؛ تغير اسم الاستعمار وبقي فعله تحت مسميات معاصرة شاملاً كل أنحاء العالم.  ولعل أهمية الكتاب تأتي من كونه يسرد تفاصيل المعترك الدموي الأسود الذي يعاني منه العالم وسكانه، ويتحدث عن أمثلة كثيرة في أمريكا الجنوبية وإفريقيا ودول شرق أسيا، وما عانوا من ديكتاتورية وظلم وحروب دموية أثرت بشكل سلبي على الشعوب والأوطان. ولا نغفل أنَّ تشومسكي يعتبر من أشد المعارضين للسياسة الأميركية وحروبها، ومناوئ للكيان الصهيوني، إلى حد الذي جعله يضع صعود اليمين الإسرائيلي في سياق الخطاب الاستعماري، وليس ضمن مساجلة ليبرالية محض، كما يلاحظ أنَّ ما تتعرض له إسرائيل من ردود فعل بسبب انتهاكاتها المستمرة لحقوق الانسان، جعلها تدرك أنها تفقد الدعم بين قطاعات الرأي العالمي المهتمة، ولو قليلًا، بحقوق الإنسان والحقوق المدنية.