وداعاً كوكب حمزة

منصة 2024/04/07
...

 فاضل سوداني

عندما منع النظام السابق منذ منتصف السبعينيات أغاني الفنان كوكب حمزة، لأنه  فنان يمتلك موقفاً فكرياً وسياسيا ويؤمن بأن الفن، لا بد أن يسهم في أن يجعل عالمنا أكثر إنسانية وأقل عنفاً، وإنه لا بد للفن أن يخلق الجمال في روح الناس.
ولهذا فإن الفنان كوكب امتلك القدرة على التعبير عن هدفه هذا من خلال صياغة لغة الملائكة اي لغته الموسيقية المعبرة عن النشيج السري والحزن العراقي الخاص، وعن ذلك الفرح العراقي الذي يستشعره الإنسان عندما تتفتح روحه في صباح ندي آمن، وكونه انبثق فجأة في بداية السبعينات من الألفية الثانية، كشعاع موسيقي  ليلحن أغنية عراقية شعبية معبرة، هدفها مساعدة العراقي على تحمل وحشية أنظمة الاستثناء ورفضه لها  في ذات الوقت.
وإنسانية أغانيه هذه  دفعته إلى  تحمل  التهجّول في المنافي ومعانات شظف العيش أكثر من ربع قرن وحتى هذه اللحظة.
لأن كوكب حمزة امتلك موقفا من الحياة عموما عبر عنه من خلال أغانيه الشعبية، ويتمثل هذا في:
ـ نقاء ونبل الموقف السياسي والاجتماعي والالتزام بقضية الإنسان العراقي، أو الإنسان عموما.    
ـ تمايز موسيقاه بكونها تعمق شفافية حواس الإنسان، وتهذب الحس والذوق الجمالي لديه بعيدا عن التطريب الساذج، الذي يميز الكثير من الأغاني التي كانت تبث من  الإذاعة آنذاك.
ـ الحرص على البحث الايقاعي في هارمونية المفردة الموسيقية لخلق موسيقى وأغنية شعبية عراقية.  
ويكمن تفرد كوكب حمزة فنيا، أيضا في غنى روحه الموسيقية، والمصدر الحقيقي لهذا هو تنوع  التراث الغنائي في مدن الجنوب العراقي، مدن الأساطير والتعاويذ والسحر، مدن مازالت عبقة برائحة الأهوار وأخرى بمسك مراقدها المقدسة.
مدن على امتداد شواطئها نسمع حنين صوت داخل حسن، وبين سعف نخيلها وضياع  المشاحيف  وتوهانها في غابات  القصب والبردي تنقل الريح الأنين الأبدي  لسلمان المنكوب، كأنه صدى لحشرجات صوت  الإله العراقي  المذبوح  تموز  البابلي.
إضافة إلى أغاني الخشابة والتراث البصري المتوزع بين الإيقاع الأفريقي العنيف والرقص الهندي السريع، وغناء بحارة السفن المحملة بالمسك والكافور والعابرة يم المحيطات المجهولة يتحول عادة إلى همس حزين على شواطئ البصرة حتى عودتها المفاجئة، وكذلك الإيقاع السريع والمركب لموسيقى الهيوه الراقصة  والمهمة الفنية التي تقع على كوكب حمزة وزملائه الفنانين، الذين  يمكن أن يجعلوا منها  عالمية التقبل والاستيعاب.
وبالتأكيد، فإن كل هذا لابد أن يشكل الحس الموسيقي الشعبي لديه، ليخلق مفردة موسيقية وأغنية شعبية تؤثر في المدينة الحضرية قبل غيرها.
إن لحن كوكب حمزة الموسيقي ليس له تأثير في وطنه وحسب وانما يمتد إلى خارجه، لأن موسيقاه تلتقي من خلال افقها الإنساني وإيقاعها الهارموني المركب، بالموسيقى الأفريقية وموسيقى الراي وأغاني وموسيقى ثيودوراكس وفيكتور جارا أو تلتقي بشجنها  مع الموسيقى الهندية الأصيلة، قبل أن تشوهها الأفلام التجارية  الرديئة.
أما عراقيا فأنها متفردة عن جميع انواع الغناء العراقي الريفي أو المديني، ويمكن أن يلمس المستمع في أغاني وموسيقى الفنان كوكب بعدا سمفونيا ومفردة موسيقية خاصة تجعل من مختلف سامعيه، حتى الذين لا ينطقون العربية يتذوقونها.
والسبب هو أن هذه المفردة الموسيقية مشحونة بمشاعر فنان أصيل وصادق مع نفسه وعالمه  المحيط.
وهذه الأصالة والصدق الفني هما اللذان يجعلانها تلتقي مع مشاعر الإنسان خارج العالم العربي وعلينا ألا نتردد في ذكر مفردة "العالمية" عند الحديث عن الغناء العراقي، لأن كل فن صادق وأصيل في شعبيته، ويمتلك القدرة على تعميم المشكلة المحلية بما فيها صدق المشاعر واتساع افقها لعموم البشر، يكون فنا عالمي المنحى، كما هو الحال مع أغاني الرأي المغاربية، والموسيقى والغناء اليوناني، وأغاني الغجر العالمية، والفلامنكو الاسباني، وموسيقى
الزنوج.
وأما أغاني كوكب حمزة مثل "يا طيور الطايره، بنادم، شوك الحمام، محطات، هوى الناس" وغيرها، إلا موسيقى شعبية أصيلة تدخل في أعماق الناس وتستوقفهم في الطريق وتحفزهم على التفكير الجدي بتهذيب مشاعرهم وجعلها أكثر دفئا والتصاقا بالجمال والخير واقل عنفا.ً
والفنان كوكب حمزة بحسه الشعبي وتذوقه الشعري امتلك حسا دراميا حتم عليه التعامل مع نوع خاص من الشعر الذي  تتميز مفردته بغنى في التأويل واتساع  التأثير في مختلف حواس الإنسان.
وقد توفر له شعراء يمتلكون إحساسا خاصا بالملحمية والتراجيديا العراقية وشمولية الرؤية، وأبرزهم هو الشاعر زهير الدجيلي.
وعندما يمتزج  الوعي الشعري ـ الدرامي وإحساس الفجيعة العراقية، بهارمونية الإيقاع الموسيقى لكوكب حمزة، تصبح أغانيه كأنها صدى لمشاعر إنسان تائه، ضاع عمره بين المحطات، إنسان ملهوف يبحث عن أهله من دون جدوى فيشعر بالمرارة، لكنه إنسان ملحاح في أسئلته، ليس فقط من أجل أن يجد طريقه الى الذين اضاعوه وضيعهم، وإنما في أسئلته المصيرية الأخرى، التي تصل حد السؤال الوجودي المقلق، كما هو الحال في أغنية "بنادم" لأبي سرحان، وأغنية "محطات" للدجيلي.
ولا بد لهذا الإنسان التائه أن يجد طريقه أحيانا، ولكنه في أحيان كثيرة  سيعيش مع قلقه الدائم لأنه لا بد أن يجد شمسه التي تضيء روحه.
وانحياز الفنان كوكب حمزة  لمثل هذا الشعر هو نتيجة طبيعية لاختناقه من غربته  الداخلية أولا، منذ  كان في وطنه.
لذا فانه من الملحنين الذين تتأصل الغربة في أرواحهم  التي لا تسمح لهم ألاستقرار على حال سواء في تنوع ألحانه أو في حياته.
ففي أغاني مثل "بنادم، محطات، هوى الناس، شوك الحمام، ويا طيور الطايره" وغيرها هناك تكثيف موسيقي للتعبير عن الحزن والإحساس بالغربة العراقية، والتأكيد على أن شغاف الروح تنسل كالهواء بين الاصابع، والفرادة العراقية للتآسي على ذلك الفارس الذي سيأتي في يوم ما، أو رفيق الأحلام، أو ذلك  الصديق المنقذ "الطين الحرّي"، أو الحبيب الذي مازال غائباً والذي يشعرنا فراقه بوحشة الطريق،  كما في أغنية "شوك الحمام": (ذبلن وعود العشك/ بشفافك وماتن/ وطيور حبنا رحلت/ وي طيفك وتاهن/ كل المهاجر رجع/ وطيفك بعد ماحن).
ومن خلال هذا القصيد المتماسك يعبر كوكب حمزة لحناً عن الغربة العراقية التي تبدو أبدية.
ومن جانب آخر ليس سهلا أن يكون، هوى الناس، قداح وشموس وعصافير، ولكن شاعر مثل الدجيلي وفنان مثل كوكب حمزة بشفافيته وصدقه وخياله اللحني قادر على التعبير عن كل هذا موسيقيا.
إن تنوع الإيقاع والغنى الروحي لأغاني الفنان تعمقت نتيجة لتأثرها بالتراث العاشورائي والتعزية الحسينية، فعندما نتمعن في أغانيه شعرا ولحنا  نكتشفها وكأنها تعاويذ الحبيبة في لحظة تمنياتها وانسياب أحلامها وقت الغروب، أو تبدو كدعاوى الأمهات العراقيات المباركات وتمنياتهن في تحقيق المراد بعودة الغائب والمهاجر إلى دكة بيته.
وصدى إيقاع الحزن الأبدي لأمهاتنا المباركات، يمكن أن نستشعرها ونستحضرها عندما نسمع أغنية مثل "بنادم" أو "محطات"، وبالرغم من محليتها إلا أن هناك إحساسا بصداها الذي يعبْر العالم الآخر.
ولهذا فان بعض الأغاني من أجل التعبير عن قلق الإنسان العراقي ومحنته الدائمة تبدو كأنها أحاسيس موسيقية عنيفة تغزو أعمق مشاعره في روح الإنسان.. من هنا تأتي حساسية كوكب الشعرية والموسيقية في اختيار أغانيه.  
ومثل هذا الإيقاع والبعد التراثي وغنى التأويل في الكلمة واللحن، أعطى لأغاني الفنان ومنذ الأولى منها مساهمة في تغير أسلوب سماع الأغنية العراقية لدى العراقيين، لأنها فرضت مفردة موسيقية وقصيد شعبي متميز، تمثل هذا بفرض الإيقاع الهارموني المركب والمتعدد النغمات لتنوع الآلات الموسيقية، أي أنها فرضت ما يسمى بلغة الموسيقى بالإيقاع البوليفوني، وهذا ما نسمعه واضحا في الأغنية الملحمية "دموع إيزيس" لفؤاد نجم، ولهذا فإن كوكب ما زال حيا في وجدان شعبه.
في الماضي من الزمن الرديء وفي غفلته حاولوا سرقة الزمن الإبداعي للفنان العراقي، وهم يحاولون الآن سرقة منفانا، ولكننا نستطيع أن نحوله إلى تاريخ  ابداعي فقط من خلال نقاء الموقف السياسي والاجتماعي غير المتكيف، والعمل الابداعي المتواصل، وهذا ما قام به كوكب حمزة، وبالرغم من الظروف الصعبة إلا أنه منح الشعب العراقي إبداعا موسقيًّا وغنائيًّا، سيخلده كفنان للشعب العراقي.