ثامر عباس
قلما يجري الحديث في وسائل إعلامنا وأروقة جامعاتنا ومراكز أبحاثنا عن مفهوم (الجدارة السياسية) وما ينطوي عليه من قضايا تتعلق بأساليب (الحوكمة) وممارسات (الحكم الرشيد)، وخصوصا لجهة ما ينبغي أن يتحلى به ويكون عليه الزعماء السياسيون في بلدان العالم الثالث ومنها دول عالمنا العربي، بالمقارنة مع تجارب وممارسات بلدان العالم الأوروبي - الغربي حيث يجري هناك طرح وتداول المفاهيم الجديدة والمصطلحات الحديثة على نحو منتج وفاعل،
لتكون في متناول المعنيين بشؤون الدولة والمجتمع للاستعانة بها على رصد ومتابعة حراك الواقع، مثلما تشخيص ومحايثة ديناميات المجتمع.
ذلك لأن معظم مصادر وعينا السياسي – ناهيك عن أنماط وعينا الاجتماعي الأخرى - لا تنبع من تضاريس واقعنا الملموسة، كما لا تتبلور على أساس مخاضات تجاربنا المعاشة بحيث تجسّد قيم مجتمعاتنا وتحمل وشم هوياتنا، وإنما تأتينا ناجزة وجاهزة بطرق ملتوية أحسن (تعليبها) وأساليب أحكم (تزويقها)، بعد أن تكون قد فقدت – في بيئتها الأصلية – بريقها المعرفي وزخمها التحليلي، هذا إن لم تكن تجاوزت مبررات وجودها المكاني وجدوى حضورها الزماني.
وذلك عبر قنوات ومسارات جرى إعدادها على نحو يجعل منها أدوات لتشويش الأفكار وبلبلة العقول، بدلا من كونها عوامل لبناء الإنسان وارتقاء الأوطان.
ولهذا تجد – على سبيل المثال لا الحصر– أننا لا نفتأ نلهج بفضائل (الديمقراطية) على مستوى (التنظير)، في الوقت الذي ان اغلبنا يناقضها ويدحضها على مستوى (الممارسة).
كما أننا نبدو مهووسين بمحاسن (العلمانية) على مستوى (الإشهار)، في الوقت الذي يميل معظمنا لمشايعة مظاهر التدين على مستوى (الإضمار).
هذا في حين نهيم حبا بـ(الليبرالية) على صعيد الخطاب إلّا أن معظمنا يمارس (الدكتاتورية) على صعيد الواقع، الأمر الذي لا نزال معه نحصد عنفًا في السياسة، وتخلفا في الاقتصاد، وتعصبا في الدين، وتطرفا في الاجتماع، وتأزما في الوعي، والتباسا في التاريخ، وتقهقرا في الحضارة.
وإذا ما وقع الاستثناء وحصل إدخال بعض من تلك المفاهيم والمصطلحات إلى سوق التداول السياسي والتعاطي الفكري ضمن واقعنا الاجتماعي المأزوم على الدوام، لأغراض وصف الظواهر وتحليل المعطيات وصياغة الفرضيات واستخلاص الاستنتاجات، فإنها سرعان ما تختفي فجأة كما ظهرت فجأة دون أن تخلف بصمة أو تترك أثرا يمكن الرجوع إليه والاستعانة به عند الحاجة.
بحيث ان وقوع حدث ما أو حصول طارئ معين غالبا»ما يضعنا أمام مآزق جهلنا بالأسباب وحيرتنا بالدوافع المسؤولة عن حدوث تلك المفاجآت المربكة، للحد الذي يشعرنا بعجز قدرتنا كليا على إيجاد التفسيرات المناسبة وتقديم الحلول
المعقولة.
والحال، كيف يفهم أصحاب العلاقة (الحاكم والمحكوم) معنى الجدارة السياسية التي يحتكمون إليها أثناء تعاطيهم مع الواقع، وما هي الشروط والمواصفات التي يعتمدونها لتضمين المعاني وإسباغ الدلالات المراد تعميمها اجتماعيا وتوطينها سيكولوجيا.
إذ بالرغم من تباين وجهات النظر بين الأول والثاني لجهة التعاطي مع هذه الخاصية السلوكية، إلا أن النتيجة أو الحصيلة النهائية واحدة في كلا الحالتين.
وهكذا، فمعنى الجدارة السياسية من وجهة نظر (الحاكم) لا تعدو أن تكون سوى القدرة على (استغفال) وعي الغالبية العظمى من جماهير العامة التي وضعتها ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في موضع التوق والاشتياق لمن سيكون لها بمثابة (منقذ/ مخلص) لمعاناتها ومكابداتها، حتى ولو كان على حساب حقوقها المهدورة وحرياتها المنتهكة.
هذا بالإضافة إلى إتقانه فن (التلاعب) بميولها الإيديولوجية و(التحكم) باهتماماتها السيكولوجية، التي عادة ما يتحرك بندولها وفقا»لإيقاع العواطف المجيشة والغرائز المستثارة.
وفي ما يتصل بوجهة نظر (المحكوم) حيال معنى الجدارة السياسية وما تنطوي عليه من دلالات سلوكية وأخلاقية، فهي لا تكاد تتخطى عتبة الفهم الذي يتمحور حول ضرورة تحلي شخصية (الحاكم) بالخاصية البطريركية (الأبوية) حتى ولو كان جاهلا» في الأمور السياسية، وامتلاك الهيبة (الإقطاعية) حتى ولو كان ظالما في القضايا الاجتماعية، وحيازة الصفات (الكارزمية) حتى ولو كان أميا في الشؤون الاقتصادية.
بحيث يتولد لديه جراء ذلك شعور طاغ ان من يتولى سوس قيادة، ويمتلك زمامة أموره، ويحدد خيارات مصيره، هو الوحيد القادر على انتشاله من وهاد عجزه الإرادي المزمنة، وشفائه من عقد خصائه المتوطنة، هذا بصرف النظر عما إذا كان (سلطانا) طاغيا، أو (ملكا) مستبدا، أو (زعيما) دكتاتورا، أو (حاكما)
شموليا.