الذاكرة التاريخيَّة.. مفهومٌ واحدٌ ودلالاتٌ متعددة

آراء 2024/04/21
...

ثامر عباس

بصرف النظر عن ماهية تكوينها وقيمة محتواها، فان (الذاكرة التاريخية) هي القسمة العادلة بين جميع أعضاء الأسرة البشرية، بحيث يستحيل العثور على كائن إنساني سليم لا تحمل بطانة وعيه مخزون – يزيد أو ينقص – من أرشيفات تلك الذاكرة المؤمثلة، والتي تحتوي على خليط متنوع من خلفيات ومرجعيات حقب تطور الشعوب والأمم وفقا»لمسرات تاريخية وحضارية شتى، تتهادى بها بين ارتدادات وانكسارات تلزمها الركون إلى أطوار بدائيتها الأولى
كثيرة هي المفاهيم والمصطلحات التي اقتحمت بيئتنا الثقافية الراكدة، وتسللت إلى أروقة تصوراتنا الفكرية المبتسرة، بحيث كان دخولها المفاجئ واقتحامها السريع أشبه ما يكون بزلزال يضرب أرضا جرداء وبيئة جدباء، لا أمل فيها ولا رجاء.
أي بمعنى أنه برغم خطورة تلك المفاهيم والمصطلحات، وجسامة ما تحمله من معانٍ ودلالات، فيما لو أحسن فهمها على صعيد تنمية الوعي بالتاريخ الوطني المتهتك، وأجيد توظيفها على مستوى الارتقاء بالبناء الحضاري المتصدع.
إلاّ أن أغلبها - وللأسف الشديد - بقيت كصرخة في واد مقفر، لا يعكس سوى رجع الصدى ومن بعدها صمت القبور.
ولعل مفهوم (الذاكرة التاريخية) الذي بات من جملة المفاهيم الأكثر شيوعيا»مثلما الأكثر إشكالية في الدراسات والبحوث الإنسانية المعاصرة، حيث تتقاسم مهمة الانشغال فيه والاهتمام به والرهان عليه ثلاثة علوم اجتماعية أساسية هي ؛ التاريخ والسوسيولوجيا والانثروبولوجيا، بعد أن ساهمت كل من مباحث (العولمة) الثقافية ونظريات (ما بعد الحداثة) وطروحات (ما بعد الاستعمار)، باستثارة كل ما يقع تحت طائلة الثوابت والمسلمات في مجال السرديات التاريخية الكبرى، التي عاشت على مواريثها المؤمثلة في المخيال الجمعي سلسلة من الأجيال كما لو أنها حقائق مقدسة.  
وبصرف النظر عن ماهية تكوينها وقيمة محتواها، فان (الذاكرة التاريخية) هي القسمة العادلة بين جميع أعضاء الأسرة البشرية، بحيث يستحيل العثور على كائن إنساني سليم لا تحمل بطانة وعيه مخزون – يزيد أو ينقص – من أرشيفات تلك الذاكرة المؤمثلة، والتي تحتوي على خليط متنوع من خلفيات ومرجعيات حقب تطور الشعوب والأمم وفقا»لمسرات تاريخية وحضارية شتى، تتهادى بها بين ارتدادات وانكسارات تلزمها الركون إلى أطوار بدائيتها الأولى تارة، وبين تطلعات وانطلاقات تسوقها للانخراط في أطوار ثقافات وحضارات إنسانية تارة أخرى.
إذ كلما تعرضت هذه الذاكرة إلى التصدع والتشظي على خلفية إيحاءات تلك الخلفيات والمرجعيات المأزومة، كلما شهد المجتمع المعني مرحلة من الانتكاس القيمي والنكوص الحضاري، والعكس بالعكس.
ولأن التجارب التي يخوض غمارها الجنس البشري تختلف من مجتمع لآخر ومن مكان لآخر ومن زمان لآخر، بحسب اختلاف الجماعات القومية وتباين المكونات الثقافية ؛ ان من حيث الأصول السلالية التي تنحدر منها، أو البيئات الايكولوجية التي تسكن فيها، أو الاعتقادات الدينية التي تؤمن بها، أو الأرومات اللغوية التي تتحدث بها.
فان مسألة التنوع في الدلالات التي تحملها (الذاكرة التاريخية) بالنسبة لتلك الجماعات والمكونات تبدو مسألة طبيعية لا تشي بأي شذوذ أو انحراف، فضلا عن كونها تتسق مع منطق الظواهر الاجتماعية والإنسانية التي تتسم بالتعدد والتنوع والاختلاف.
هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار ان كل جماعة معينة تمتلك – حتى ولو كانت لا تعي ذلك - ذاكرة تاريخية خاصة بها تتماهى مع سرديتها وتجتاف قيمها، مثلما تعبر عن اختلاف – ان لم يكن تعارض – رموزها مع بقية الذاكرات التاريخية للجماعات الأخرى.  
وعلى الرغم من وضوح هذه الوقائع، فقد لبثنا أحقابا»نلوك الكلمات الطنانة ونجتر الخطابات الرنانة التي لا تغني ولا تسمن من جوع حول دور (الذاكرة التاريخية) في لملمة شعث الجماعات، وصهر تناثر الأصوليات، فيما الواقع الاجتماعي يغلي من حولنا بالكراهيات ويتفجر بيننا بالصراعات، دون أن تعترينا لحظة صحوة نتأمل من خلالها أسباب هذه السيول من المآسي الطاحنة والاهتداء إلى مصادر دوافعها المكبوتة، كما لو أن سحر الكلمات الناعمة بات أمضى من وقع السلوكيات الخشنة.
فكون الذاكرة تحمل صفة (التاريخية) لا يجعل منها اتوماتيكيا» مسار (تلاق) بين المكونات الاجتماعية والثقافية، مثلما لن يحيلها إلى بؤرة (اتفاق) بين تلك المكونات تحت مسميات (المواطنة) الفضفاضة أو (الهوية) الملتسبة.
فقد تكون الذاكرة التاريخية – وقد كانت بالفعل – سببا»أساسيا»في تصدع مداميك الكيان الاجتماعي وتشظي مكوناته وتذرر ثقافته، بحيث ساهمت سردياتها الطافحة بالحساسيات الاقوامية، والفائضة بالمنافكات القبائلية، والمترعة بالكراهيات الطوائفية، في تعميق هوة خلافاتنا، وتوطين عوامل صراعاتنا، وإطالة أمد
معاناتنا.
ولعل ما تسببت به (الذاكرات التاريخية) للجماعات العراقية المتصارعة من مآس وفواجع على مدى عقود – ان لم تكن قرون - كفيل بحملنا على التريث في الرهان على اعتبارها (ميزة) سوسيولوجية لسمتنة النسيج الفسيفسائي للمجتمع، بدلا من تحولها إلى معول لهدم كيانه وتذرر مكوناته!.