محمد غازي الأخرس
بيني وبينكم، لا أتذكر كم مرة عدت لقراءة كتاب "العراق" للباحث حنا بطاطو، ضاع عليَّ الحساب، فمع كل بحث أكتبه، أعود للكتاب لأخرج بشيء جديد. والنتيجة أن هذا الرجل الفلسطيني الفذ لم يكن مؤرخاً للعراق الحديث فحسب، بل هو مفكك لروح البلد، بجماعاته المتنوعة، بشرائحه، سياسييه ونخبته، ومنهم المثقفون وإن لم يتناولهم إلّا عرضاً. مؤخراً، توقفت عند مقارنة مذهلة يعقدها (بطاطو) بين نمطين من المثقفين العراقيين، الأول يمثله أديب محض هو محمود أحمد السيد، والثاني يمثله مثور وعي هو حسين الرحال، رائد أوّل حلقة ماركسية في العراق، وكان محمود أحمد السيد أحد أقطابها. لكن قبل المقارنة بينهما، فلنمر بسرعة على سيرة (السيد)، التي هي سيرة جيل بأكمله.
ولد محمود احمد السيد سنة 1907، وتوفي عام 1939. لذا هو عينة مثالية للمثقف العراقي الذي تكوّن وعيه في مرحلة الانتقال من عصر إلى آخر. ورغم عمره القصير (32 عاماً)، يمكن تقسيم حياته إلى ثلاث مراحل هي ذاتها التي مرّ بها أبناء جيله: ثمّة أولاً مرحلة المثقف الرومانسي، الحالم، والمندهش بأساليب الغرب الفكريَّة وفنونهم الأدبيَّة. ثانياً، هناك مرحلة المثقف الخائب، المحبط من قوّة التقاليد الاجتماعية والثقافية المتحجّرة. أمّا المرحلة الثالثة، فهي المرحلة العقائديَّة، التي يعود فيها المثقف عادة إلى واقعه متسلّحاً بإديولوجيا معينة يفهم فيها الأدب والفكر بوصفهما وسيلتين من وسائل التغيير الاجتماعي.
ولئن بدا ظل (السيد)، في تاريخ الأفكار، ضئيلا بالقياس إلى ظل رفيقه حسين الرحّال، إلّا انه كان اقرب إلى الصورة الفعلية للمثقف العراقي كما تجسّدت في وقته.
من ناحية تلخيصه كلّ أزمات وأوهام أبناء جيله المنشغلين بإنجاز المهمة "الرسوليَّة" الأثيرة لديهم، وهي التفكير نيابة عن المجتمع، وتوهم حيازة حقيقة تخصّ ذلك المجتمع. من ثمّ، الذوبان في المهمة والنضال من أجل إتمامها، عن طريق تغليب الوظيفة الاجتماعية للأدب، بعيداً أو قريباً عن التجديد الفني في أشكال الأدب.
هذه الصورة التقريبيَّة للمثقف العراقي "اليوتوبي" تشمل أغلب مثقفي العراق في القرن العشرين، ومن هنا تتأتى عبقريّة المقارنة بين محمود أحمد السيد وحسين الرحّال، لأنّها تصلح على امتداد النمطين وصولاً لأيامنا.
يقول بطاطو عن (السيّد) أنّ أفقه الذهني كان "أكثر محدوديّة من أفق رفيقه الرحّال، ولم تكن معرفته واسعة بالرغم من أنّه كان أكثر حساسيّة وأغنى خيالاً وأكثر تأثراً بالضمير الاجتماعي. وكذلك كانت معالجات الرحّال لشؤون الحياة أكثر هدوءاً وأكثر ترويّاً من معالجة السيّد الذي كان أكثر اتقاداً وتهوراً. ولم يكن السيد بقدرة الرحال في التعامل مع الأفكار النظرية أو المجردة".
الحال أن بطاطو يوشك أن يصف أغلب ممتهني الأدب العراقيين من خلال وصفه لمحمود أحمد السيد: أفق ذهني محدود، معرفة ضيّقة، لكن حساسية عالية، وخيال غنيّ، وتأثّر مبالغ به بالضمير الاجتماعي، ثمّ تهوّر في معالجة شؤون الحياة. هؤلاء هم الأدباء العراقيون منذ أن عرفناهم، نتحدث عن الأدباء الحقيقيين، أما المزيفون فلهم شأن آخر.
هل عرفتم لماذا أحب حنا بطاطو!