ياسين العطواني
مع انتهاء الحرب الباردة بين القطبيين الرئيسيين في العالم، وما أعقبها من هبوب رياح التغيير والتي عصفت بالكثير من الديكتاتوريات في العالم، ظهرت العديد من المفاهيم والرؤى الداعية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ومراعاة حقوق الإنسان، وإشاعة أجواء الحرية والديمقراطية في أرجاء العالم المختلفة. ومن بين أبرز تلك المفاهيم والرؤى ظهر مفهوم العدالة الانتقالية
ورغم التباين في تحديد هذا المفهوم من حيث المصطلح والتطبيق إلا أن مفهوم العدالة الانتقالية يشير بشكل عام إلى مجموعة من الأساليب، التي يُمكن للدول استخدامها لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان السابقة. وتشمل العدالة الانتقالية على سلسلةً من الإجراءات أو السياسات مع المؤسسات الناتجة عنها، والتي يمكن أن تُسن في مرحلة تحول سياسي بين فترة عنف وقمع إلى فترة استقرار سياسي. وتستمد العدالة الانتقالية مضمونها من رغبة المجتمع في إعادة بناء ثقة اجتماعية، مع إصلاح نظام قانوني مهترئ، وبناء نظام حكم ديمقراطي. وقد حَظي مصطلح العدالة الانتقالية حديثاً على الكثير من الاهتمام من قبل الباحثين وصناع القرار السياسي، كما حَظي بالاهتمام في المجالات السياسية والقانونية. ولهذا يمكن وصف الفترات الانتقالية من حياة الشعوب والأمم بأنها من أصعب المراحل التاريخية في سُلم تطورها أثناء عملية التغيير والتحول من النظام الشمولي الدكتاتوري إلى النظام الديمقراطي التعددي، خصوصا إذا شملت تلك التغيرات نظام الحكم والنهج السياسي والأيديولوجي لهذا النظام، ومؤسسات الدولة المختلفة، وكذلك نمط وسلوكيات العلاقات الاجتماعية والثقافية للمجتمع. ولكن مع وجود كل هذه التحولات هناك من يعتقد ان أفضل طريق يمكن سلوكه وتجنب تلك المطبات يكمن في مفهوم العدالة الانتقالية، على اعتبار ان هدف ومنهجية مؤسسات العدالة الانتقالية هو السعي إلى بلوغ العدالة الشاملة أثناء فترات الإنتقال السياسي من الشمولية إلى الديمقراطة، ومعالجة إرث إنتهاكات حقوق الانسان في الماضي، ومساعدة الشعوب على الانتقال بشكل مباشر وسلمي وغير عنيف بهدف الوصول إلي مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية. فالمعروف أن كل وضع غير ديمقراطي وأستبدادي ينتج عنه صور مختلفة من أنتهاكات حقوق الإنسان، ولأنه لا يمكن التقدم للأمام وتحقيق أي انتقال ديمقراطي، ما لم تتم معالجة ملفات الماضي في ما يتعلق بتلك الانتهاكات، وهذا الأمر يجب أن لا يقوم على الثأر والانتقام، وإنما الوصول إلى حلول عادلة ترتكز علي اعتقاد مفاده بأن السياسة القضائية المسؤولة عن تلك الملفات يجب أن تتوخي هدفاً مزدوجاً وهو، المحاسبة علي جرائم الماضي، ومنع الجرائم الجديدة من الوقوع مجدداً.
أما بشأن التجربة العراقية فإن استلهام التجارب العالمية كان ينبغي أن تأخذ الخصوصية العراقية بنظر الاعتبار، فإذا كانت مفاهيم العدالة الإنتقالية تعتبر ضرورة مُلحة للبلدان والشعوب، التي شهدت تغييرا وتحولا جذريا لأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن الأمر بالنسبة للعراق كبلد يعتبر أكثر إلحاحا، وهو بأمس الحاجة إلى الأخذ بتلك المفاهيم، وذلك لجملة من الأسباب والمبررات الموضوعية، يقف في مقدمتها طبيعة ومنهجية النظام السياسي والأيديولوجي الذي حكم البلاد طوال تلك العقود المنصرمة، والذي انفرد بأفعال وتوجهات وأساليب لم يشهد لها مثيل عبر التاريخ المدون، ليس في نهجه القمعي والتسلطي بل في كيفية إدارة شؤون الدولة ومؤسساتها والنهج الأيديولوجي، الذي اصطبغ به تلك المؤسسات والمجتمع عموما، ولهذا فإن عملية التحول الواسع النطاق الذي طرأ على الواقع العراقي والمتمثل بالانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية المُفترضة، والتي لم تتم فصولها بعد، هو بمثابة التحول إلى النقيض الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويبدو أن هذا الأمر كان أكثر صعوبة وتعقيد من عملية التغيير نفسها. وعلى الرغم من أننا لسنا بصدد تقييم تجرية العدالة الإنتقالية التي أعقبت عملية التغيير، والمؤسسات التي أُستُحدثت لهذا الغرض، ونظراً لأهمية الموضوع وحساسيته، كان يُفترض على الجميع المشاركة في النقاش الذي كان يدور حول مواجهة وتصفية تراكمات العهد البائد، وأختيار أفضل السبل لتحقيق المصالحة الوطنية، ومنع عودة الدكتاتورية من جديد، بإفساح المجال لمؤسسات العدالة الإنتقالية بأخذ دورها في عملية البناء والتغيير. على اعتبار أن فكرة وتطبيق العدالة الإنتقالية واحدة من الحلول الناجعة والناجحة للمجتمع العراقي، وتُعد خطوة مهمة في تحقيق الطمأنينة والسلم الأجتماعي. واليوم ونحن نعيش أجواء هذا التغيير، وبعد مرور أكثر من عقدين على هذا المشهد الدراماتيكي نستطيع القول، إن العدالة الانتقالية جاءت لمعالجة الأوضاع السابقة، وهي لا تقوم على الثأر والانتقام، لكنها تهدف إلى إنصاف الضحايا وذويهم، وعدم إفلات الجناة من العقاب مهما كان بسيطاً، في ظل معالجة حكيمة بين مُرتكب الانتهاكات وضحاياه، من أجل إعادة بناء وطن يسع الجميع، قوامه احترام حقوق الإنسان، والديمقراطية، وسيادة حكم القانون.