الأكثر مبيعاً في عصر التَّسلية

ثقافة 2019/06/02
...

عبدالزهرة زكي
 
 
من بين كبار كتاب القرن العشرين ينجح غابريال غارسيا ماركيز بحجز موقع له في قائمة الكتّاب الذين تجاوزت مبيعاتهم الخمسين مليون نسخة. (مئة عام من العزلة) هي التي بوّأت ماركيز ذلك الموقع، فيما لم تظهر روايات ماركيز الأخرى، وبعضها أكثر (شعبية) من (مئة عام)، في هذه القائمة ولا في قوائم أخرى تضمنت الكتاب المليونيين، وأدناها قائمة بائعي أكثر من عشرة ملايين نسخة.
في قائمة الخمسين مليون نسخة يظهر أيضاً من كبار كتّاب القرن العشرين سالنجر من خلال (الحارس في حقل الشوفان)، كما يظهر فيها ناباكوف بـ (لوليتا).
لكن قبل هؤلاء فإن انطوان دو سانت اكزوبري، بكتابه (الأمير الصغير)، يظهر في القائمة الأعلى التي تضم كتّاباً من باعة الأكثر من مئة مليون نسخة خلال القرن العشرين، فقد بِيعَ من كتابه (الأمير الصغير)، وهو أقرب إلى أدب الأطفال، إنما بثيمة فلسفية مصاغة بروح شعرية، مئة وأربعون مليون نسخة، اكزوبري وُلد في مفتتح القرن العشرين (عام 1900)، ومهارته كطيار ألقت بظلالها على عمله الأدبي.
العشرات الآخرون من كبّار كتاب الرواية وأجناس الأدب الأخرى في القرن الماضي، من جيمس جويس ووليم فوكنر وأرنستهمنغواي وكازانتزاكي وهيرمان هيسه وحتى إيتالو كالفينو وإمبرتو إيكو وبول أوستر، لم يجدوا طريقاً لهم إلى هذه القوائم.
هذه قوائم ما زالت تتصدرها هاري بوتر التي بِيع من كتبها حتى الآن أكثر من خمس مئة مليون نسخة. كتابها الأخير هو أكثر أسرع الكتب توزيعا فقد بيعت منه خمس عشرة مليون نسخة عبر العالم خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى بعد إطلاقه، فيما كتابها (سيد الخواتم) يتصدر الكتب الأكثر مبيعاً عبر العصور.
ما الذي يجعل كتاباً ما يتصدر قائمة المبيعات، وما الذي يجعل كتاباً آخر سواه لا ينال (اهتماماً) يُذكر في سوق بيع الكتب؟
سيكون من الصعب التوفّر على إجابة مناسبة ودقيقة ما لم يجرِ ضبط السؤال بالتحديد عن أي (سوق) يجري الكلام، وعن أي (اهتمام).
ما يمكن أن يحظى بإقبال القراء في مدينة غربية قد لا يحظى بإقبال مماثل في مدينة مثل بغداد التي فيها سوق واعدة للكتاب.
وما يحظى باهتمام قارئ في مدينة إسلامية قد لا يجد اهتماما في مدينة أخرى بغربي آسيا أو بأفريقيا. الأماكن المختلفة تخلق تقاليد مختلفة للقراءة ولاهتمام القراء.
لكن هذا الحكم الأخير لا يمكن إطلاقه بتعميم مفتوح. هناك كتب تحظى بميزات تجعلها تتخطى هذا التحديد. في الغالب تتجاوز كتب الأدب، ببعض نماذجها، التقيّد بمكان وهوية خاصين، بعض كتب السياسة والسيرة والعلوم تتجاوز هي أيضاً هذه التحديدات. لكن بالمقابل فإن الغالبية المطلقة من كتب الأدب والسياسة والعلوم والسيرة تتأثر وتتقيّد بهوية قرائية محددة تحيلها لقراء مدّن وبلدان محددة وذلك إما من حيث طبيعتها المحلية أو لصلتها بظرف كتابتها ونشرها.
فما هو مهم وجدير بالقراءة في ثقافة ما قد لا يكون كذلك في ثقافة أخرى، وما هو مهم، في ظرف معين، داخل الثقافة نفسها قد لا يستمر بالأهمية ذاتها بالنسبة للقراء في ظرف آخر حتى داخل الثقافة نفسها. كتاب حنا بطاطو عن (العراق)، مثلاً، هو كتاب جدير بحضور قرائي واسع في بلد مثل العراق، وقد يحظى بقراء متخصصين في بلدان عربية أخرى، لكن فرصه بالانتشار خارج هذا المحيط تظل شحيحة وربما معدومة، لكنّ كتاباً لتشومسكي، مثلاً أيضاً، من الممكن أن يكون كتاباً رائجا في مختلف البلدان والقارات، ولا يعني هذا التمايز بسعة الانتشار حكم مفاضلة بين الكاتبين، قدر ما يعبّر عن أن أهميةًما لكتابٍ معينقد تأتي من خارجه، من طبيعة اهتمام مستويات القراء وهوياتهم. 
لكن ما هي (الأهمية)؟ ما المواصفات التي تجعل من كتاب (مهماً) ولا تجعل سواه هكذا؟
هل يمكن لنا الحديث هنا عن أهميتين لا واحدة؛ أهمية الكتاب من حيث قيمته الفكرية والابداعية المتضمنة فيه، وأهمية تسويقية من حيث تلبيته لمتطلبات سوق أو أسواق الكتب؟
هاتان أهميتان لا تتطابقان دائماً، بل غالباً ما تتعارضان.
ما هو مهم للقراء العامين، وهم المتحكمون عادةً بمستوى الرواج لكتاب ما وتراجع الاهتمام بسواه، قد لا يكون بالنسبة لهؤلاء، أو لمعظمهم، بمستوى الأهمية المتضمنة في كتاب آخر.
ستتبادر للذهن في الوهلة الأولى أن هذا التنافر بين الأهميتين قد تجد تطبيقاتها في كتب أخرى غير كتب الإبداع الأدبي. لكن كتب الأدب هي أيضاً باتت أكثر عرضة للوقوع في هذا التمايز ما بين الأهميتين، بل هي أشد تمثيلاً لها.
مؤلفات كبار الكتاب الأكثر رواجاً، وقد تحدثنا عن ماركيز، من الممكن أن تحظى حين صدروها بالتقدم في قوائم الأكثر مبيعاً المصنفة عالمياً، كقائمة نيويورك تايمز مثلاً، لكن هذه قوائم موسمية وهي غير القوائم المليونية التي بدأنا المقال بها.
في هذه العقود التي عاش ماركيز ومات فيها، وعاش معه عشرات من أكبر كتاب الرواية بمختلف القارات خلال القرنين الماضي والحالي، كان من غير الممكنلهؤلاء التنافس مع كاتبة أمريكية هي السيدة دانييل ستيل التي تتمتع بامتياز كونها الكاتبة الحية الأكثر مبيعاً للكتب عبر التاريخ. هذه السيدة باعت أكثر من 800 مليون نسخة من مختلف كتبها، ومعظمها (روايات)، فقد ألفت خلال خمسة عقود ما لا يقل عن 179 كتاباً تمت ترجمتها إلى 43 لغة، وآخرها رواية ستصدر هذا الأسبوع.
هذه السيدة تشكو من إهمال النقد لمؤلفاتها. النقد لا يتعامل مع هذه المؤلفات بوصفها أدبا جاداً، من الممكن المرور بها باهتمامات بحثية ونقدية أخرى حين يتعلق الأمر بكلام عن نمط الثقافة الشعبية السائد في هذا العصر.
هنا نقف عند الاختلاف ما بين الأهمية الفنية والفكرية لعمل روائي لكاتب جاد وبين الأهمية التسويقية لعمل كاتبة كالسيدة ستيل.
طبيعة موضوعات روايات هذه السيدة تمتزج فيها الرومانسية بالخيال والمغامرة، وبما يناسب اهتمامات القطاع الأوسع من جمهرة القراء، إنها جمهرة تشكل القراءة بالنسبة لها استهلاكا للوقت وبحثا عن متعة سطحية، ويساعد في انتشار مثل هذه الطبيعة الاستهلاكية التلفزيون ومسلسلاته والسينما بأفلامها السطحية.
قبل أيام كنت اقرأ في الاندبندت مقالاً للفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك. كان يعنوان (عن الأنوثة المميتة والخوف من الثورات في”صراع العروش”) وكان، كما يفصح عنوانه عن مسلسل الفانتازيا “صراع العروش”، وهو مسلسل شغل العالم عبر القارات بانتهاء حلقاته قبل أسبوعين . في هذا المقال يستذكر جيجك عالم “سيد الخواتم” الروحي لا الإلهي، من حيث وجود قوى خارقة للطبيعة؛ لكنّها جزءٌ من الطبيعة، من دون تلك الآلهة وخدّامها القساوسة الأشدّاء.
وسيد الخواتم الذي كنا اشرنا له في مستهل المقال، هو عمل تلفزيوني يستند إلى واحد من المؤلَّفات المليونية، حيث تتكافل الرواية السطحية مع الشغل التلفزيوني الأشد سطحية وبما ينمّي سوق التفاهة في عصر التسلية.