مبارك حسني
لا مراء في أن فرنسا هي مهد السينما، بما هي عرض جماهيري على شاشة كبيرة مؤدى عنه، وبما هي فن سردي يروي حكاية عبر الصورة المتحركة. والفضل في ذلك يعود كما يعرف الدارسون إلى الإخوة لوميير أوغيست ولويس، حين قاما بعرض فيلم " الساقي المسقي".
كان ذلك سنة 1895. وعكس السينما الأمريكية التي سرعان ما جعلتها صناعةً قائمةَ الذات تدخل في مجال الترفيه عامة، وبخلاف السينما السوفياتية التي نَحت منحى تيار الواقعية الاشتراكية إجمالا، في البدايات الاولى، دون أن تتخلى بالطبع عن قيمة فنية عالية خاصة على المستوى التقني والشكلي، انتحت السينما الفرنسية الوجهة الفنية عموما، عبر تيار الواقعية الشعرية بداية في عشرينيات القرن الماضي ثم تيار الموجة الجديدة في الستينيات من ذات القرن.
هذا في ما يخص تاريخ السينما الذي لا يذكر الا المُؤَثِّر والفاعِلَ. فبِمُوازَة ذلك وُجدت دوما سينما تجارية ترفيهية على الطريقة الأمريكية عبر أفلام الحركة والكوميديا والكوميديا الغنائية إلى ما غير ذلك من الأنواع المعروفة. لكنها كانت دوما معروفة بكونها تُعلي من شأن الجانب الفني والثقافي. وذلك إلى حد أن كبار المخرجين العالميين وجدوا في فرنسا السينمائية ملاذا وملجأ لأفلامهم، وبالخصوص عبر منصة مهرجان كان الذي يُعَدُّ أكبر محفل احتفالي سينمائي عالمي منذ أكثر من سبعة عقود، حيث شكَّلت المنطلق لمشوارهم السينمائي عالميا.
احصاءات مهمة
نورد هذا للقول بأن السينما الفرنسية لا تتمتع بجماهيرية عالمية بما يصطلح عليه بالسينما الشعبية، لكنها تبقى من السينماتوغرافيات الكبرى في العالم. فحسب الأرقام التي أدلى بها موقع المركز الوطني للسينما المشرف على السينما بفرنسا بالنسبة لسنة 2022، أجاز المركز 287 فيلما فرنسيا ضمن إجمالي 681 فيلما سينمائيا جديدا تمت مشاهدته بشكل حصري وأوَّلي. وعرفت شاشات قاعات العرض البالغ عددها 6298 شاشة، دخول 152 مليون متفرج. وهي إحصائيات ناطقة بحيوية كبيرة على جميع المستويات من انتاج وعرض. وهو ما يدل على أن للسينما الفرنسية مَعْنىً ثقافيا قويا في البلد. ومَرَدُّ ذاك في جزء كبير منه، باستثناء القطاع الخاص، إلى سياسة الدعم المسمار بصندوق الدعم قبل المداخيل. أي أن الفيلم تُمنَحُ له مبالغ مالية هامة ومُساعَدةً على أساس أن يتم استرجاعها بعد العروض الجماهيرية. وهذه السياسة الداعمة تم اعتمادها سنة 1960، من طرف الكاتب الروائي المعروف أندري مالرو، حين كان وزيرا للثقافة في عهد الرئيس الجنرال دوغول. ومعروف أن أندري مالرو هو الذي فرض نسبة 1 في المئة، التي يجب أن تُخصِّصها كل بلدية من موازنتها لدعم الثقافة بشكل عام. في مجال السينما يتكلف بذلك المركز المذكور آنفا، الذي إضافة إلى ذلك له فروع اقليمية في كل منطقة من مناطق فرنسا، تسهر هي بدورها على إنتاج أفلام ودعمها في شكل شراكة مفيدة لها وللسينما في ذات الوقت. أما بالنسبة للأفلام التي يقع عليها الاختيار كي تَنالَ بالدعم، فتختارها لجنة مكونة من العديد الأعضاء يترأسها كتاب معروفون وتصم في عضويتها رجال الثقافة والفن. وهذا ما يفسر جزءا مهما من المكانة التي تخضع بها السينما الفرنسية، خاصة على المستوى الثقافي الفني. كما أن أفلام القطاع الخاص لها دورها أيضا في خريطة المشهد السينمائي، عبر سينما الحركة وسينما النجوم على الطريقة الأمريكية.
أفلامٌ جديدة.. مضامين جديدة
وهذه الأخيرة تحظى بمتابعة إعلامية واشهارية واسعة، في الفضاءات العامة ووسائل النقل العمومي والقنوات الإذاعية والتلفزية والمواقع المختلفة. أما الأفلام التي نعتناها بالثقافية والفنية، والتي تحظى أبرزها بالمتابعة أيضا في القاعات العامة الكبرى، خاصة تلك التي يتم اختيارها في المهرجانات وخاصة مهرجان كان المعروف. إلا أنها تتوفر أيضا على مسار توزيع خاص بالقاعات المسماة قاعات الفن والبحث cinéma art et essai، ذات الخصوصية الفرنسية التي تجد جذورها في سياسة السينماتيك، أي الخزانة السينمائية المعروفة بكونها توفر المتعة الفنية الخالدة والتثقيف بواسطة السينما.
وطبعا تخضع هذه السياسة السينمائية لظروف كل عِقد زمني على حدة. ومن خلال تتبع وملاحظات الأفلام التي تحتكر فضاء المشاهدة والنقاش والمتابعة، نلاحظ وجود تغيير كبير عما كان عليه الأمر في السنوات السالفة.
ففي اللوائح التي تضن المئة فيلم الأفضل لسنة 2022، التي أنجزها الموقع الرصين "المعنى للنقدي" Sens critique، كما لائحة أفضل الأفلام التي تنجزها دفاتر السينما كل سنة، يلاحظ أن هذه الأخيرة من إخراج أسماء غير معروفة كثيرا، باستثناء المخضرم لوك بيسون وسيدريك كان وكاثرين بريا المعروفة بأفلامها الجريئة جدا، كما تتضمن حضور عدد مهم من العنصر النسوي. وهذا يعكس النقاش العمومي الكبير الدائر حاليا في السينما الفرنسية الذي يعرف المُناداة بحضورهن بالتساوي، وإن بدا الأمر صعبا، كما يعرف جدالا ممتدا وصعبا بدوره حول المضامين الفنية التي ترتفع العديد من الأصوات المنادية بوجوب "احترامها" للخصوصيات كما تطالب جمعيات مثل "مي تو" والحركات الجندرية،.. إلخ. ولا بد من الإشارة هنا الى الأعمال السينمائية، التي كانت وراءها سينمائيات من أصل عربي على غرار بايا كاسمي ومونيا شكري ومونية مدور وكوثر بن هنية ومونا أشاش ومريم التوزاني..
عدا هذا، فإن أغلب الأفلام التي احتلت أعلى الملصقات، تناولت أغلب الأنواع السينمائية المعروفة. تأتي في مقدمتها الدراما الاجتماعية والفيلم التشويقي البوليسي والكوميديا والخيال العلمي والفيلم التاريخي، مع وجود لافت لأفلام تتناول حيوات شخصيات عامة معروفة كالراهب بيير الشهير بجمعيته إيماوس غير الدينية التي تكافح ضد الاقصاء، وأفلام تخص محاكمات شهيرة مثل قضية اليساري المتطرف كولدمان.. إلا أن الفيلم الذي استحوذ على أكبر قدر من الاهتمام هو "تشريح سقطة" للمخرجة جيستين تريي، والذي توج بالسعفة الذهبية في الدورة الأخيرة لمهرجان كان.
وهكذا تلاحظ حيوية سينمائية مستمرة وإن كانت بأقل على ما هي عليه في عقود سابقة. وبالتالي يظل الفن السابع في فرنسا أحد أعمدة الثقافة إلى جانب الأدب والمسرح والفنون
التشكيلية.