الحقيقة والاختلاف من منظور الجماعات المتطرفة

آراء 2024/04/30
...

 د. عدي حسن مزعل

مشكلة خطاب الجماعات المتطرفة أنه يتعامى عن حقيقة أن الاختلاف سمة ليست وليدة اليوم ولا الماضي القريب، بل هي سمة حاضرة في كل مجتمع. إذ لا يخلو مجتمع من تعدد وتنوع، أكان ذلك على صعيد الدين أو القومية أو العادات والتقاليد أو الميول الثقافية، فكيف بالبشر كل البشر الذين من أبرز سماتهم المغايرة في المعتقد واللغة والقومية! والعمل على ضبط هذا الاختلاف وقهر التنوع والتعدد تحت مسمى الائتلاف والوحدة منهج لا ينتج عنه سوى العنف والإرهاب

إذا كان المفكر العربي عبد الرحمن الكواكبي قد عدّ (الاستبداد السياسي) (داء الشرق)، وعمل على بيان أسبابه وكيفية الخلاص منه في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، فلنا آن نضيف إلى أمراض الشرق الحديثة: (العنف) و (الإرهاب)، بوصفهما ظواهر أصبحت من الأهمية بمكان دراستها، وذلك لما لها من تداعيات على حياة المجتمعات والشعوب ولا سيما المجتمعات العربية والإسلامية.

وبالنسبة للجماعات المتطرفة، يمثل العنف والإرهاب أداتهما الأبرز في تحقيق مشاريعهما، حيث “الاستخدام المتعمد للعنف لبث مشاعر الخوف، بهدف إجبار أو ترويع الحكومات أو المجتمعات”. وذلك أحد تعريفات الإرهاب. ويشكل العامل العقائدي الديني مرتكزاً أساسياً لتلك الجماعات والحركات في تسويغ برامجها وممارساتها، إذ تعمد إلى تفسيرات معينة للنصوص الدينية تبرر من خلالها سياساتها. وهكذا وظف الدين واستخدم أسوأ استخدام، قديماً، منذ اندلاع الحروب الأهلية زمن العقود الأولى لظهور الإسلام، وحتى يومنا هذا على يد الجماعات التكفيرية المنتجة للعنف، أي ابتداءً من الخوارج ووصولاً إلى تنظيم القاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرها كثير من الجماعات والحركات المتطرفة.

يرى الناقد اللبناني علي حرب، أن من أمراض عالمنا الإسلامي العقلية الأحادية. ويقصد عقلية الجماعات والحركات والمذاهب والأحزاب التي تدعي امتلاك الحقيقة، ولا تقبل الاختلاف ولا الرأي الآخر. منهج كهذا مآله الاستبداد والعنف إزاء المختلف والمغاير. ونجد ذلك في شعار الفرقة الناجية الواحدة، والتي نتج عنها فتن وحروب بين المذاهب. لأن الاختلاف من منظور شرطة العقائد وحراس الأيديولوجيات هو تحريف وبدعة. وينطبق هذا المعنى على الأصوليات الدينية مثلما ينطبق على أصحاب الأيديولوجيات العلمانية الحديثة مثل (الماركسية والقومية) التي أنتجت أنظمة شمولية لا تقبل الاختلاف، وتدعو إلى تكريس نموذج وتعميمه على المجتمع، بحيث يصبح أفراد هذا المجتمع نسخة واحدة تتماهى مع ما يطلب ويراد منها، أكان ذلك النموذج شخصاً هو القائد الأوحد، أو أيديولوجية يجري تكريسها ويطلب الالتزام بها والسير على هدي مقرراتها.

ومشكلة خطاب الجماعات المتطرفة أنه يتعامى عن حقيقة أن الاختلاف سمة ليست وليدة اليوم ولا الماضي القريب، بل هي سمة حاضرة في كل مجتمع. إذ لا يخلو مجتمع من تعدد وتنوع، أكان ذلك على صعيد الدين أو القومية أو العادات والتقاليد أو الميول الثقافية، فكيف بالبشر كل البشر الذين من أبرز سماتهم المغايرة في المعتقد واللغة والقومية! والعمل على ضبط هذا الاختلاف وقهر التنوع والتعدد تحت مسمى الائتلاف والوحدة منهج لا ينتج عنه سوى العنف والإرهاب.

  إن آفة التطرف والإرهاب، وإن لم تخل من عوامل خارجية تغذيه وتدعم ديمومته لأجل مصالح سياسية واقتصادية ودينية، وهو ما يجعل من الإرهاب (صناعة دولية)، مع ذلك، تبقى هذه الآفة مشكلة داخلية لها جذورها في مجتمعنا وثقافتنا، وتدخل الدول والسياسة في صناعتها لا يعفينا من مسؤولية البحث عن جذورها، ولا سيما في تراثنا الزاخر بأحكام واجتهادات وفتاوى تسوغ العنف والتطرف وتمنحه الشرعية، خاصة وأن مجتمعاتنا ما زالت ترى في ذاتها أنها الأفضل، وإنها تمثل الإيمان الصحيح، وان غيرها على ضلال وكفر. وهذا المنطق الذي يقسم العالم إلى (نحن) و (هم) لا زال سائداً في الغرب أيضاً، الغرب الذي استبدل لغة العصور الوسطى (في هذه اللغة يقسم البشر إلى مؤمنين وكفرة وإلى أخيار وأشرار وإلى مسيحيين ومسلمين) بلغة حديثة، إذ يرى في ذاته أنه مركز العالم ومنبع الحضارة والمدنية والعلم، وغيره ما هو إلا هامش ومتخلف ينبغي السيطرة عليه بغية تعليمه وإعادة تأهيله للحاق بركب الحضارة والمدنية. وهكذا يحمل كِلا الخطابين نزعة اصطفائية دوغمائية مآلها الصراع والتناحر. وما لم نتجاوز هذه اللغة صوب لغة أكثر إنسانية، سيبقى العنف والإرهاب يستمد مبرراته من هذه النزعة، وسيبقى سمة هذا القرن والقرن القادم.

ولذلك يقع على عاتق المؤسسات الدينية وعلماء المذاهب مسؤولية كبيرة، تتمثل في نقد وتقويض أيديولوجيا الجماعات التكفيرية، وذلك من أجل تكريس السلم الاجتماعي الدائم (لا الموسمي المكتفي ببيانات وقتية زمن الأزمات)، فضلاً عن اتخاذ مواقف جريئة تتوخى تصحيح الكثير مما ورد في التراث، حال إصدار بيان مفاده نبذ ورفض كل ما يهدد العيش معاً من أجل تكريس التعايش بعيداً عن العنف والصدام. والمطلوب على صعيد فكري هو تجديد أفكارنا. 

فالعالم اليوم ليس عالم العصور الأولى للإسلام، ولا العصور الوسطى، ولا حتى ما نطلق عليه العصور الحديثة، العالم اليوم بحاجة إلى لغة ومعرفة جديدة، أقصد عدة فكرية تواكب كافة صعده من: سياسة، تقنية، ثقافة، واقتصاد.

ويبقى أن إدامة هذه الثقافة وتكريسها في المجتمع يتطلب (نخبة سياسية ودينية) مؤمنة بها، تعمل على بث وإشاعة ثقافة التعايش السلمي في مختلف طبقات المجتمع، وغرسها في وعيهم كما تغرس العادات والتقاليد التي نتلقفها من الأسرة والمجتمع. 

أمراً كهذا إذا ما تحقق، عندها نستطيع القول: إننا تجاوزنا الصراع والتناحر والعنف ودخلنا عالم الاستقرار والتقدم، عالم بناء الإنسان الذي شكّلته الثقافة بعد تحريرها من كل أشكال القسر والتسلط صوب الحرية والعدالة والمواطنة.