محمد غازي الأخرس
عجيبة هي حكايتنا مع الفيسبوك، فجأة تعرفنا عليه، وبسرعة فتحنا له قلوبنا وسلّمناه مفاتيحنا، رقصنا معه وبكينا برفقته، وبعد مرور ما يقرب من خمسة عشر عاما، ها هو ذا يتحول إلى مدونة كبرى لمشاعرنا وأفكارنا، تحولاتنا ولحظات نزقنا. شخصيا، بين فترة وأخرى أعاود تقليب صفحتي التي افتتحتها العام 2010 بتحريض من الصديق سرمد الطائي، أيام كنا نعمل في جريدة (العالم) رفقة الراحل أحمد المهنا. وكان أول تعليق حظيت به على أول منشور نشرته بقلم الروائي أحمد سعداوي.
نعم، صفحتي في الفيسبوك كانت جدّ فعالة، فأنا أنشر أغلب مقالاتي فيها، لذا يزورها آلاف القرّاء لمتابعة تلك المقالات. وفي أوقات عديدة، كنت أستلهم تعليقات القرّاء لأكتب مقالات أخرى ردّاً عليها وتوضيحاً لها. على أن أغرب ما كنت أصنعه في صفحتي هو تأسيس كروبات ذات بُعد ثقافي جاد أو طريف أحيانا. وكنت أضيف لتلك الكروبات أصدقاء ممن أحسبهم يهتمون بالمحاور أو الموضوعات التي تدور حولها تلك الصفحات. من تلك الكروبات المثيرة صفحة أطلقت عليها تسمية (مسكوت عنه)، وحلمت بأن تكون ميدانا أمرن فيه نفسي وبضعة أصدقاء أثق بهم على ثقافة الاعتراف بالمسكوت عنه، من الذكريات والأفكار. بمعنى أنّها صفحة تكون مثل مرآة كبيرة نطالع بها أنفسنا على حقيقتها. حين أطلقت الصفحة عرفتها بكونها “صفحة لتقويض السجون التي تحيطنا في الداخل، والتفكير بحرية ومن دون أقنعة عن كل ما يقبع خلف التابوات”. المفارقة أن من بين أعضاء الصفحة روائيين مشاهير وأدباء معروفين وصحفيين من ذوي الأسماء اللامعة، ولم تخل الصفحة من النساء وكانت بينهن شاعرة معروفة على نطاق واسع. استمرت الصفحة نشيطة لأشهر قبل أن يكسل أعضاؤها وتقل منشوراتهم التي كانت من أروع ما يكون. أكتب هذه المقالة وأنا أراجع الصفحة فأقهقه لبعض المنشورات وأحزن من أخرى، وإليكم واحدة من الالتماعات شديدة الإضاءة التي اعترفت بها عن علاقتي بأبي. كتبت: “هذه من أغرب العلاقات التي لا أستطيع تفسيرها إلا اعتمادا على نظريات علم النفس. حتى اليوم، بعد وفاته بقرابة تسع سنوات - كتبت الملاحظة عام 2013 - لا أكاد أتذكره حتى أشعر بهزة شديدة تنتابني. قوة شخصيته كانت من أكثر الأشياء التي جعلتني هشّاً وضعيفاً ولربما ما زلت. حتى شبابي، كنت أقدّسه وأنتظر أية نأمة منه لأتلقفها. كان شيوعياً كلاسيكياً، ويفسّر كل شيء تفسيراً مادياً، وكنت أنا مسحوراً به، بعلميته، بطريقته في التحليل، بوثاقته من أفكاره. لم يكن يخامره الشك أبدا في ما يعتقد. حين كبرتُ، في المراهقة، اِتّضح لي أنني ذو مزاج روحي وأميل إلى طرق عوالم ما ورائيَّة غامضة. وهنا بدأ التعارض والاختلاف. صار أبي بالنسبة لي كابوساً، شرع الصراع في دواخلي للخلاص منه دون جدوى. وكان هو برمزيته العظيمة وقوته غير المعقولة عصيّاً على التفتيت.
المفصل المهم هو أنني، انطلاقا من مرحلة الشباب، بدأت أطعن صورته في ذهني، وأقرأ كل ما يخالف أفكاره. تديّنت وتصوّفت لأتخلّص منه، وإلى أن توفي كنت لا أقوى على هزّه.
حين توفي شعرتُ بضياعٍ حقيقي. لأول مرة أشعر أنّني أمام نفسي العارية.
هل هي مصادفة أنني بدأت أكتب أهم أشيائي بعد رحيله؟
لا أدري، حقاً لا أدري!