داني دورلينغ*
ترجمة: مي اسماعيل
يعد تباطؤ معدل الولادات عالميا مشكلة لدول مثل كوريا الجنوبية؛ لكنه لا يمثل مشكلة للبشرية؛ وخاصة للنساء.. قالت شابة من كوريا الجنوبية ردا على تقرير نشر مؤخرا في {بي بي سي} البريطانية عن انخفاض معدلات الخصوبة في بلدها لأقل حد موثق: {انه أمرٌ مُضحك وقاتم؛ أن نعلم أننا قد نتسبب في انقراضنا..}. الآن، تنجب نساء كوريا الجنوبية في المتوسط نسبة أقل من واحد بالمئة طفل فقط؛ ويتوجب ان يكون لبلد ما (كي يكون عدد سكانه مستقرا) ان تكون نسبة الانجاب أكثر بقليل من اثنين بالمئة؛
إذ لا يصل جميع الأطفال إلى منتصف سن البلوغ، في أي مكان في العالم.. تدنى عدد الولادات في كوريا الجنوبية رغم إنفاق الحكومات المتعاقبة نحو 285 مليار دولار خلال العقدين الماضيين لتحفيز النساء على إنجاب المزيد من الأطفال.
ركز تقرير “بي بي سي” على المفاضلة بين الحصول على وظيفة أو تكوين أسرة؛ والتكاليف الباهظة للتعليم الخاص، والبؤس التنافسي الناتج عن النشوء في المجتمع الكوري الجنوبي.
ورغم ذلك لم تظهر كلمات مثل “عدم المساواة” أو “الفقر” أو “العوز” في التقرير؛ ولعل السبب أن كلمات مثل هذه لم تعد موضع ترحيب الآن بالنسبة لهيئة البث العامة (بي بي سي)، التي تمثل الدولة الكبيرة الأكثر تفاوتا (من حيث الدخل) في أوروبا.
أو لعلنا نميل للتفكير بهذه القضايا باعتبارها مجموع ملايين الاختيارات الفردية لعدم إنجاب الأطفال؛ وليست جزءًا من قصة أوسع.
فجوات في الأجور
تقدّم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية “OECD” (الدولية) إحصاءات عدم المساواة في الدخل وتقوك بتحديثها بشكل مستمر؛ ومنها يظهر ان كوريا الجنوبية تحتل الموقع الحادي عشر عالميا من حيث عدم المساواة في الدخل.
ولكن لا توجد علاقة بسيطة بين عدم المساواة الاقتصادية في بلد ما وعدد الأطفال الذين ينجبهم أبناؤه.
في ريطانيا نسبة أكبر من عدم المساواة؛ إذ تحتل المرتبة الثامنة؛ لكن معدل الخصوبة فيها يبلغ 1,6 بالمئة، أما الولايات المتحدة؛ وهي خامس دولة من حيث عدم المساواة بالعالم الغني؛ فان عدد الأطفال، إذ يبلغ 1,7 بالمئة.
لماذا إذًا تنخفض معدلات الخصوبة في كوريا الجنوبية؟ يقترح الاعلام الفرنسي ان موضوع.. “القيام بالعبء الأكبر من الأعمال المنزلية” يُعتبر عاملا رئيسياً، بينما تُشير قناة “الجزيرة” الى ان كوريا الجنوبية.. “لديها إحدى أسوأ الفجوات في الأجور بين الجنسين” ضمن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
إختارت وكالة رويترز للأخبار تسليط الضوء على.. “وصول معدل الخصوبة في اليابان الى أوطأ نقطة، بمقدار 1,26 بالمئة عام 2022؛ بينما سجلت الصين معدل واحد بالمئة تقريبا؛ وهو من الأوطأ تسجيلا”.
وذكّرت صحيفة الغارديان البريطانية القُرّاء أن.. “معدل المواليد في بريطانيا هو الأوطأ منذ عقدين”، مشيرة أن اللوم بات يُوضع على كافة الأمور؛ من “الماركسية الثقافية” إلى “نرجسية جيل الألفية”.
لكن ما ما يجدر أن يُقال ولم يقله أحد هو اننا لسنا وحدنا على هذا الكوكب؛ فهناك نحو ثمانية مليارات انسان؛ بينما تُركّز القصص الاخبارية فقط على احداثٍ تجري في أغنى الأمم؛ وكأنما باقي البشر (أو باقي الطبيعة) غير موجودين..
تجاوز العالم بأكمله لحظة “ذروة ولادات الطفل” الدرامية منذ وقت طويل جدا؛ منذ التسعينات. وأحدَثَ الأطفال الذين أنجبهم أولئك الأطفال ذروة ولادات أخرى؛ لكنها كانت بالكاد أعلى من سابقتها.
اليوم تُظهِر توقعات الأمم المتحدة أننا لن نشهد مثل تلك الارتفاعات بأعداد المواليد مرة أخرى، وأن أعداد السكان الكلية من الآن فصاعدا سترتفع بوتيرة بطيئة فقط؛ وغالبا لأننا نعيش لفترة اطول.
كما تقترح التوقعات الحالية أيضا انه بحلول عام 2086 ستنخفض أعداد البشر للمرة الأولى؛ بسبب الكوارث؛ وسيكون ذلك ذروة في التاريخ الإنساني ونقطة بالغة الأهمية على مسار تاريخ الجنس البشري صغير العمر جداً على الارض.
عوالم جديدة للسكن
ليس من السهل إمتلاك القدرة على تفسير كيف يعرف رجال ونساء العالم الغني انه يوجد اليوم ما يكفي من البشر على الأرض؛ ولكن يبدو واضحا أن أغلبهم يعرف بوجود ما يكفي من الشباب الذين يعيشون في مكان آخر؛ بحيث انه لو توقفت محاولات “منع الهجرة” أو استخدام لغة مبطنة أو مُوحِية في الرسائل السياسية عن “تسميم الدماء النقية”؛ فسيكون هناك ما يكفي منّا للتجول في كل مكان، طيلة مستقبلنا كله!
يبدو أن الشباب يعرفون (على الاقل في اللاوعي) أن على العالم “أن يُبطءَ” المسيرة في كل مكانٍ تقريبا خارج مناطق الحروب.
والأمر هنا لا يتعلق بالقلق حول الكوارث المناخية أو الذكاء الاصطناعي أو أي مخاوف وجودية أخرى حديثة نسبيا.. ونحن نُدرك ذلك لأن تباطؤ عدد المواليد في أماكن مثل كوريا واليابان وأوروبا بدأ منذ بضعة عقود، والانسان يُعبّرُ دائما عن صدمته من تناقص عدد الولادات؛ لكن هذا يجب أن يحدث في النهاية.. ولعل كوريا الجنوبية لا تعدو عن كونها الحد الأقصى لهذا الاتجاه؛ وهي هناك لأنها حضرية بالكامل تقريبا.
لا يتحرك الانسان ضمن إطار الصوامع الإحصائية لحدود الدول القومية، كما ان سلوكه يتأثر بكل ما يحدث في العالم. كان معدل الولادات في انخفاض مستمر في كافة أرجاء العالم تقريبا، ولعدة
عقود.
لكن عدد الأطفال في العالم عموما يكفي اليوم؛ إذ لا توجد عوالم جديدة للسكن، وقد أصبحنا أكثر وعيا بالعواقب المترتبة على محاولة استيطان أراضي الآخرين أكثر من أي وقت مضى.. اننا نعيش في مدن مزدحمة منتشرة على سطح كوكب يستضيف عدداً كافياً من البشر ولا يحتاج للمزيد.. وقد طوَّر الانسان أنظمة للضمان الاجتماعي يجب أن تعتني بنا في سن الشيخوخة (إذا كنا
حريصين)..
* أستاذ الجغرافية البشرية بجامعة أوكسفورد
صحيفة الأوبزرفر البريطانية