عباس الصباغ
مر العراق على مدى تاريخه المعاصر، بالكثير من التجاوزات المؤسفة والخروقات المؤذية لشعبه وسيادته وأمنه القومي من بعض دول الاقليم لا سيما من تركيا، ومن جملة ذلك تحويله إلى ارض جرداء وتعريض أمنه الغذائي والمائي إلى الخطر، واضطرار الكثير من المزارعين إلى الهجرة مع الاستمرار بتقنين أو حجب الاطلاقات المائية، وعدم السماح بتقاسم الضرر بين الدول المتشاطئة، لحوضي دجلة والفرات ما أثّر في النسيج الديموغرافي للعراق، ولم تفلح جميع المناشدات برفع هذا الحيف عن العراق، الذي وُصف بانه الخامس عالميا في التطرف المناخي والتصحر، ناهيك عن تكرار القصف المتكرر، الذي يطول الاراضي العراقية عبر اقليم كردستان، بسبب تواجد عناصر البي كي كي المناوئة لتركيا على اراضيه مايشكّل خرقا كبيرا للسيادة والامن القومي العراقيين.
وتأتي زيارة اردوغان بعد الزيارة التاريخية الناجحة، التي قام بها السوداني إلى واشنطن والتي قد تكون مدخلا إلى تصحيح الاخطاء الاقليمية المجحفة بحق العراق، الذي التزم بسياسة الصبر الاستراتيجي وحسن الظن طمعا من تلك الدول ان تراعي حسن الجوار التاريخي والانساني مع العراق، وهذا ليس ضعفا أو تفريطا بثوابت الامن القومي للبلد بل العكس من ذلك بدليل التعامل التركي مع العراق بأعلى مستوى، ولولا سياسة الصبر الاستراتيجي والتوازن في التعامل العقلاني مع جميع الاطراف، وعدم الانزلاق في متاهات المحاور في رسم خارطة طريق عقلانية مع الجميع تؤكد ان العراق ليس دولة هشة أو غير آمنة أو غير مستقرة، لما كان قد تحقق كل هذا اذ بات العراق يحظى بتقدير وثقة المجتمع الدولي والاقليمي، ورغبة الأسرة الدولية في التعامل معه كونه صار يتمتع باستقرار أمني/ وسياسي نسبي ملموس مؤخرا بسبب تلك السياسة المنضبطة خارجيا وداخليا، ومن اهم الامثلة على ذلك هو زيارة السوداني الناجحة إلى واشنطن وتفعيله اتفاقية الاطار الاستراتيجي ـ وهو الملف الابرز والاكثر سخونة وتشابكا واهمية ـ وعقد الكثير من الاتفاقيات المشتركة والتي تهم مصلحة الطرفين على جميع الصعد الامنية والسياسية والاقتصادية والاستثمارية والطاقوية بينهما.
ولم تأت الزيارة التاريخية المهمة للرئيس التركي اردوغان من فراغ، والتي فعّلت عشرات الاتفاقيات ذات الاهتمام المشترك بين العراق وتركيا خاصة مايتعلق بالمياه والامن (معضلة البي كي كي الشائكة ) وطريق التنمية الاستراتيجي، جاءت نتائجها كلها لصالح العراق، وشكلت جميعها انعطافات سياسية مهمة، فالعراق تجاوز الصورة السلبية المرسومة عنه خلال العقود الماضية التي شهدت تجاذبات سياسية ـ امنية حادة وصارخة وُصِف العراق خلالها انه من الدول الهشة أو الفاشلة، ولا يُنصحُ بالتعامل معه، واليوم قد انعكس الوضع تماما وذلك باتباع سياسة الصبر الاستراتيجي وضبط النفس وصولا إلى انتهاج الدبلوماسية المنتجة اللائقة بالعراق.
ومن جملة مكاسب العراق من زيارة اردوغان: توقيع 25 مذكرة تفاهم في مختلف المجالات، وكانت جميعها مقدمة أساسية لتفعيل مناخ الاستثمار ومسارات التعاون الاقتصادي في مجالات حيوية ومهمة في مقدمتها الطاقة والعلوم والتكنولوجيا، فضلا عن التعاون عبر مشاريع مشتركة لتحسين إدارة المياه في حوضي دجلة والفرات، ودعوة شركات تركية للتعاون في البنى التحتية لمشاريع الري، وتنفيذ مشاريع تبادل الخبرات واستخدام أنظمة وتقنيات الريّ، أي منح العراق حصة كافية من المياه (وهو الاهم ) ويستمر تنفيذ هذا الاتفاق الخاص بالمياه لـ 10 سنوات قابلة للتجديد، ناهيك عن التنسيق المشترك لمكافحة الإرهاب وتحييد البي كي كي، واعتبارها جهة ارهابية، والتأكيد على رفض العراق ان تكون أراضيه منطلقا للاعتداء أو تهديد دول الجوار ومنها تركيا.