المكتبات الراحلة

الصفحة الاخيرة 2024/05/06
...

عبد الهادي مهودر

يبقى الكتاب خير جلس في الزمان سواء كان ورقيَّاً او الكترونيَّاً، لكن بيوت هذا الزمان ضاقت بأهلها وغدرتها تقلّبات الأحوال ولم تعد المسافات بينك وبين الجار السابع ثابتة على ما كانت عليه قبل حالات انشطار البيت الواحد الى بيتين او ثلاثة او اربع وحسب المساحة المستقطعة، والذي تغيّر في هذا الزمن ليس الترتيب الرقمي لسابع جار وحسب، وإنما عجز البيوت الصغيرة عن السكن مع ذكرياتها العزيزة تحت سقف واحد، وعدم تحمّل بقاء الكتب والمكتبات في المساحات الضيقة، وعجز الورثة عن حفظ الميراث الذي لا يتنازعون عليه في القسام الشرعي، وسمعت من صديق تساؤلات محزنة عن مصير مكتبة والده الراحل الذي ترك آلاف الكتب من دون أن يوصي بها ويحدد مصيرها، وهذه الكمية الكبيرة من الكتب هي الوحيدة التي لم يسأل بقية الأبناء عن حصتهم فيها بل تورّط فيها كبيرهم الذي خذله ضيق المكان عن الاحتفاظ بمكتبة الوالد التي كانت أعز عليه من كل ما يملك ويقضي فيها كل أوقاته ولهم فيها معه صور وذكريات لاتنسى، لكنها ذهبت مع الريح لحظة التخلّص من المكتبة بطرق متعددة كتعدد أسباب الموت الواحد، وهذه ليست أول ولا آخر قصص المكتبات الراحلة، وقد وقع بعضها في أيدٍ أمينة أو أيد فرّطت بها، أو حوتها غرف المركز الثقافي العراقي قرب بناية القشلة، وجزى الله الصديق طالب عيسى مدير المركز الثقافي خيراً على نقل آلاف الكتب وتخصيص غرف مستقلة ومشتركة لحفظ هذا الميراث وإتاحة المكتبات الشخصية الثمينة للزوار ولمن يعرف قيمتها، ولعله أصبح الوريث الوحيد لهذه الكنوز التي يزهد بها الورثة أو تضطرهم الضرورة الملجئة الى التخلّص منها وتوديعها الى مثواها الأخير، لكن الصورة ليست سوداء بالمطلق فهناك أبناء على خطى الآباء توارثوا حب الكتب والمكتبات واحتفظوا بها وزادوا عليها، لكن التفكير الجدي بالواقع الذي فرضته طبيعة الحياة مقابل سهولة خزن آلاف الكتب الالكترونية في (اللا مكان) تفرض على أصحاب المكتبات الكبيرة التخطيط لمستقبلها والاطمئنان عليها وعدم تركها لتواجه مصيرها المجهول، وصحيح أن إثارة هذا الموضوع مؤلمة لكن حديثاً عابراً مع رفيق درب أثار كل هذا الحزن وكشف أن كثيراً من الكتب والمكتبات الشخصية تعيش بعد أصحابها حالة من الضياع ما إن تخسر وجوده وتفقد أنفاسه الطيبة، ويؤسفني إثارة الحديث عن مصير الكتب والمكتبات، لكنه طول الأمل في الحياة الذي يمنع من التفريط المبكّر بالمكتبات الشخصية، ومن ظريف ما سمعت عن طول الأمل أن العراقيين يملؤون (المجمدات) بالباميا لكنك حين تسألهم عن الغد القريب يقولون لك (منو ابو باچر) وأطال الله أعماركم.