يعتقد علماء الاثار بان مدينة ايلوسا التي كانت مركز النبيذ الروماني المعروف انهارت بوصول الاسلام اليها، إلا ان نفاياتها كشفت عن سبب آخر مختلف ومقلق جدا.
كانت ايلوسا مدينة مزدهرة قبل ما يقارب من 1500 سنة وتقع على الحافة الجنوبية من الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) والتي تعرف اليوم بصحراء النقب (الإسرائيلية)، المدينة التي كان عدد سكانها نحو عشرين ألف نسمة كانت تضم مسرحا وأحواضا عامة وكنائس وورش عمل حرفية وأنظمة ادارة مائية مبتكرة مكنّت مواطني ايلوسا من زراعة المحاصيل وتصدير منتوجاتها الاكثر شهرة، مثل نبيذ غزة، وهو خمر ابيض ثمين كان يشحن عبر البحر الابيض المتوسط الى الموانئ البعيدة جدا.
ومع ان مدينة ايلوسا البيزنطية والتي تعرف الآن باسم هالوزا قد انهارت خلال قرنين من الزمن، لكنها تركت خلفها بنايات قديمة استغلتها الاجيال اللاحقة ودفنت ببساطة تحت الكثبان الرملية المتحركة.
اعتقد المؤرخون بان الانظمة الاجتماعية والاقتصادية البيزنطية في منطقة صحراء النقب ضعُفت مع بداية ظهور الحقبة الاسلامية خلال منتصف القرن السابع عشر، وهي الحقبة التي قادت الى تغيرات كالتضييق على انتاج النبيذ السلعة التي تدر الكثير من الاموال والتجارة على مدينة ايلوسا.
وعند القاء نظرة قريبة على مكبات النفايات لبلدية مدينة ايلوسا، ادرك علماء الاثار ان تدهور المدينة قد حدث على الاغلب قبل دخول النفوذ الاسلامي للمنطقة بقرن من الزمن، او خلال ما اعتبر تقليديا بأنه ذروة الفترة البيزنطية، لكن المتسبب هو التحول المميت والسريع للمناخ الناتج عن الثورات البركانية البعيدة.
نفايات تصبح ثروة
مؤخرا، نشرت صحيفة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة دراسة، لخص فيها البروفسور غاي بار أوز المهتم بعلم الحيوانات القديمة بجامعة حيفا مع الباحثين نتائج التنقيبات في مكبات النفايات المدنية التي لا تزال شاخصة قرب ضواحي مدينة ايلوسا.
اثارت عملية الحفر فضول البروفسور بار أوز حول سقوط المجتمع البيزنطي في صحراء النقب، وهي القصة التي لاحظ بأنها لم تذكرها كتب التاريخ الشعبي مثل كتاب (انهيار 2005) للعالم والكاتب الاميركي جارد دايموند، ولجأ الباحثون الى مكبات ايلوسا لمعرفة الادلة المنطقية عن ان نهاية جمع النفايات والتي تعتبر خدمة حضرية مهمة للمدينة، من الممكن ان تحدد نهاية لأداء مجتمعي عالي المستوى للبيئة الحضرية.
وبعد التنقيب في طبقات القمامة مثل رماد المواقد وعظام الحيوانات والأسماك وبذور العنب والزيتون ومواد البناء المهملة وأباريق النبيذ المكسورة، وجد الباحثون ان المكبات الرئيسة توقفت عن استلام النفايات منذ ما يقارب 550 سنة.
يقول بار أوز: «تفاجأنا جدا لأننا توقعنا ان توقيت ترك هذه المكبات قد يكون في وقت لاحق جدا».
ومع ان نهاية ادارة النفايات لمنطقة ايلوسا ترتبط مع التطورات الحديثة لعلم المناخ، لكنها اظهرت بان منتصف القرن السادس عشر كان وقتا مروعا للبقاء على قيد الحياة لمعظم دول اوروبا واسيا.
بحلول العام 2016 قامت مجموعة من العلماء يقودهم بروفسور تحليل الانظمة البيئية بجامعة كامبرديج أولف بانتغن بتحديد فترة التغير المناخي السريع الذي تم التغاضي عنه وهي (العصر الجليدي الصغير الحديث) والتي دامت من 536 الى 660 تقريبا.
وبفحص الحقائق الموجودة على حلقات الاشجار والحبيبات العالقة تحت الجليد، وجد بانتغن وزملاؤه ان انفجار الثورات البركانية خلال السنوات 536، 540، 547 التي حجبت الشمس ادت الى فترة باردة استثنائية شمال نصف الكرة الارضية، ولم يتمكن العلماء حتى الان من تحديد موقع البراكين التي ثارت في تلك السنين، وادعت مجموعة باحثين العام الماضي ان الانفجار الذي حدث سنة 536 ربما يكون قد حدث في آيسلندا تلاه نقص الطعام وحدوث مجاعة.
المناخ والتاريخ
ويتوقع الباحثون ان الاحداث المناخية ربما تكون قد ارتبطت مع التغيرات الاجتماعية الرئيسة التي بدأت منتصف القرن السادس عشر، منذ توسع السكان السلافيين غربا الى الكثير من دول القارة الأوروبية، الى انهيار الامبراطورية التركية في الشرق شمال قارة آسيا، وقد يكون العصر الجليدي الصغير الحديث سهّلَ تفشي وباء الموت الاسود (الطاعون) لأول مرة على مستوى العالم، والذي يعرف بطاعون جستنيان (وهو وباء ضرب الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو البيزنطية) وانتشر بعموم مناطق البحر الابيض المتوسط منذ بداية العام 541.
يقول بانتغن «تقدم مدينة ايلوسا قضية جميلة ليدرسها علم الاثار من الجانب الإنساني، والتي توفر الدليل على ما اقترحناه، فنحن ندرك اكثر وأكثر بان اتخاذ القرار وأنظمتنا لا تعمل بمعزل عن الظروف البيئية والمناخية».
ويبقى ربط المدة الزمنية الطويلة للظواهر البيئية بالاحداث التاريخية المنفصلة امرا صعبا، ولم يتمكن العلماء من معرفة الكيفية التي أثر فيها العصر الجليدي الصغير الحديث على صحراء النقب، فمثلا الانجماد السريع قد يكون كارثيا بالنسبة للمحاصيل لكل من ايرلندا وشبه الجزيرة الاسكندنافية، لكن بانتغن يقول ان البيئات القاحلة والمعرضة للجفاف كصحراء النقب قد تكون استفادت من هذه التغيرات.
ومع ذلك فان اقتصاد مدينة ايلوسا استمر بالاعتماد على الاسواق الخارجية التي قد تكون غير مرضية.
يقول بار أوز «من ناحية المشهد الدولي، فاذا كان هناك الطلب اقل على المنتج في الجانب الاخر من البحر الابيض المتوسط كالنبيذ، فمن المحتمل ان تنخفض الأسعار».
ان تكهن المؤرخين والكتّاب بسقوط الامبراطورية الرومانية منذ عدة قرون، اضافة الى ما توصلوا اليه عن مدينة ايلوسا هو جزء من التوجه الجديد للبحث في شبكة العوامل البيئية المعقدة التي قد تكون اثرت في التغير الاجتماعي عبر الامبراطورية.
بروفسور الكلاسيكية من جامعة اوكلاهوما كايل هاربر الذي لم يشترك في البحث الجديد يقول» إن القمامة هي فكرة أثرية قيد الاستخدام لدراسة الماضي».
وأضاف هاربر «نحن نعلم بان القرن السادس عشر الميلادي مرَّ بسلسلة غير اعتيادية من الثورات البركانية العنيفة، احدثت تغيرا مناخيا مفاجئا، والأهم من هذا بداية تفشي أول وباء للطاعون».
وكتب هاربر سنة 2017 كتاب (مصير روما: المناخ، المرض، ونهاية الامبراطورية)، وهذه الدراسة الان هي دليل آخر على أن تلك الاحداث البيئية الصادمة كانت مدمرة جدا للمجتمعات التي عاصرتها.
عن موقع ناشيونيال جيوغرافيك