صراع التكيّف مع المتغيّرات

آراء 2024/05/09
...

نازك بدير

يشهد العالم تحوّلًا تكنولوجيًّا سريعًا، من أنظمة تواصل، وإنتاج سلع وخدمات ونقْلها.
وتزداد القدرة التنافسيّة في مجالات الصحّة والتعليم والأمن السيبراني.
أمام هذه المتغيّرات، ثمّة فجوة بين الدول العربيّة في التكيّف معها، وكيفيّة استثمارها.
إذ استطاعت بعض الحكومات الدخول في السباق التكنولوجي، وارتفع مستوى استعدادها لاستخدام التقنيات الرائدة.
لكن، أيمكن أن يؤدّي ذلك إلى نقْل مجتمعاتها من العشائريّة إلى المدنيّة؟ وهل هذا التحوّل التكنولوجي الهائل في مسارات الحياة قادرٌ على إحداث تغيير في الذهنيّة التقليديّة، وعلى بناء نسق فكريّ متجدّد؟
استحوذت دولة الإمارات_على سبيل المثال_ على المركز الأوّل، على صعيد العالم العربي في مجال الذكاء الاصطناعي.
وهي تضخ مليارات الدولارات للاستثمار في سوق الاتصالات، كما وعدت بتقديم خدمة 6G في 2030.
وغنيّ عن الذكر أنّ نحو 80 % من سكّانها هم من الوافدين، وفي طليعتهم الجالية الهنديّة.
ومن الواضح أنّ التكنولوجيا تسرّبت إلى كثير من مرافق التعليم، والأعمال، على تنوّعها واختلافها( في البلدان العربيّة) لكن، في الأعمّ، ثمّة هوّة بين التقنيات والوسائط التكنولوجيّة المتطوّرة التي يستخدمها المرء من جهة، وبين البنية الذهنيّة التي تسيّر حياته الاجتماعيّة، وتؤثّر في اتّخاذ قراراته، وتشكيل شخصيّته، وتكوين ثقافته من جهة ثانية.
المفارقة أنّ ثمّة متخصّصين في مجال التكنولوجيا_وليسوا مجرّد مستهلكين لها_ سرعان ما يسترجعون الذهنيّة التقليديّة عند “الهبوط” من حيّز المختبر إلى حيّز الحياة الاجتماعيّة.
( يُنسى كأنّه لم يكن) يعود الواحد منهم مجدّدًا إلى البوتقة التي خرج منها، نسخة مطابقة في سلوكه، وتصرّفاته، وردود أفعاله عن مجتمع متخلّف صهرَتْه العادات والتقاليد، يعكس بشكل صارخ “انفصام العقل العربي”، والعجز عن نقْل النظريّة والتجربة العلميّة، إلى الميدان العملي، فيبقى مغلولًا بقيود العشائريّة والعصبيّة، وما ينضوي تحتها من مفاهيم مسمومة تغلغلت في تفاصيل الأفراد، حتّى باتت هي القاعدة، والخروج عنها جريمة.
ولعلّ المشكلة، أنّ شريحة كبيرة من المراهقين تغذّت بهذه الأفكار المتحجّرة، وتربّت عليها، فتراها تتشظّى بين التربية الرجعيّة من ناحية، وما تنزع إليه صوب التغيير من ناحية ثانية.
تنهض في هذا السياق مسألة التكيّف مع تحوّلات المجتمع؛ القبول بالتغيير نحو الأفضل، ولا يعني ذلك التخلي عن القيم والمبادئ والأخلاق، إنّما تحطيم الصنميّة مهما كان نوعها قبل ادّعاء السباق في عالم التكنولوجيا، ومواجهة التحديّات، ولا سيّما في مجال التربية المجتمعيّة، وإعادة تصحيح منظومة بناء الفرد.
البحوث والمتابعة الدؤوبة في مجال التكنولوجيا، واستثمار التقنيات المتقدّمة وغيرها، أمور مطلوبة، لا بل واجبة.
لكن، لن تجدي نفعًا إن لم تقترن مع تغيير جذري في بنية المجتمع، وإعادة تكوين الشخصيّة، وتحريرها من براثن الأنانيّة، والعمل بإخلاص على تحقيق التكيّف مع العلم والتنوير.

 أكاديميّة لبنانيّة