رعد أطياف
الحرية والطغيان متضادان كتضاد الوجود والعدم. لذلك لا يوجد في معجم الطاغية متنفسٌ للحرية إلا بوصفها إباحية. وللعبيد قصص لا تنتهي تلك القصص التي تتعلق بإعدام مفهوم الحرية، عبر تزويره وتشويهه وإحالته إلى حقل الإباحية. إن الحرية تهديد سافر لوجود الطاغية المزيف، الذي تَشَكّلَ على مقاس كراهية الآخرين. وإذا ما انحرفت سُنّة الكون عن مسارها وقذفت به الأقدار نحو السلطة فسيشن حرباَ ضروساً على أشكال الحياة المقدسة،
وينتقم من الحرية واتباعها وسيضع التقاليد والأعراف إحدى شمّاعاته العزيزة على قلبه، لكنّه، ويا للأسف، لا تكفيه كل مساحة المجرة لبسط دونيته فيها، فسيظل عطشه الدائم، وسيظل يرتوي من البحر المالح، وستظل أعماقه مشروعاً للتعذيب والوسواس القهري، إلى أن يأتيه ما لم يكن بالحسبان، ويأخذه أخذ عزيز مقتدر.
المهم، لسنا في صدد رفع الكروت الحمراء على أفعال الناس، فلهذا الأمر سلطة القانون التي تسهر على حماية الحريات؛ مثل حرية التفكير، وحرية التعبير، وما ينطوي تحتهما من مصاديق كثيرة، وإنما لنضع تاريخ أعتى طاغية مر في تاريخ العراق الحديث، أعني به صدام حسين بوصفه مادة تحليلية، وإسهاما مهما في تسليط الضوء على حياة الطغاة المتجبّرين.
واحدة من مصادر شقاء الطاغية حين يدرك جيداً، أن الكثير من المواضيع التي يحتقرها هي مواضيع محقّة، فيضاعف ذلك الشقاء من دونيته ومدى حزنه العميق، ويتحول في نهاية المطاف إلى كائن تمزّقه التبريرات شر ممزق.
إنه إحدى الكائنات الفائضة عن الحاجة التي نذرت نفسها لتسميم الحياة ومحاربة كل أشكال التراحم البشري. من هنا نفهم لجوء الطاغية وعبيده لمنطق القوّة والغلبة والبطش بالآخرين، كمحاولة يائسة للتخلّص من خصومهم الذين يضاعفون من دونيتهم!
الطاغية كائن جبان يتكاثر في أعماقه حطام نفسي هائل، فيحوّل تلك الآلام المبرحة إلى طاقة عدوانية تنهي حياة الآخرين في بعض الأحيان.
مخيلته مخيلة رمادية تماثل روح البهيمة في خوفها المستمر من المجهول، وردود أفعالها الهستيرية تجاه أي حركة مجهولة، تهدد وضعها البهيمي القائم على الخوف والبلادة الذهنية.
أسوأ كابوس يمكن أن يجربه الطاغية هو الحرية، بحيث ظل العراق لأكثر من ثلاثة عقود يدار بالحديد والنار، وكانت الحرية أكثر الأعداء شراسة بالنسبة لحزب البعث التكريتي. ولم يتورع صدام عن أي قيد قانوني أو أخلاقي وهو يجاهر بعقيدته المريضة، يوم كان يهدد معارضيه من على شاشات التلفزيون بقتلهم بالجملة.
إن موت الطغاة لا يشكل خلاصاً كلياً، لأننا سنكتشف لاحقاً أن البيئة النتنة التي خلّفها هذا الكائن وراءه قد ازدحمت بشتّى الطفيليات، وعلى الناس أن تكابد لاحقاً مرارة العثور على المصل المضاد لهذه الكائنات السامّة.
فهذه أقل مرارة يمكن أن تتجرعها بعض الجماعات البشرية إزاء إذعانها المتملّق لهذا الطاغية، فتتحول إلى فزاعات بشرية فاقدة لكل أشكال الحياة.
وإذا ما فهمنا الثمن الباهظ الذي ندفعه في حياة الطاغية، فلا ينتهي هذا الثمن بموته بسرعة، وإنما يأخذ مناحي عدّة، ومنها نزوع الناس الشديد نحو الحرية، لا بوصفها مسؤولية إنسانية عظيمة يكتشف الإنسان من خلاله إمكانياته الخاصة، وإنما بوصفها فوضى عارمة عابرة لكل منطق.
فحينما يتحرر شعب ما من قبضة الطغيان ويسارع النظام الجديد لتشريع القوانين التي تكفل الحريات، ستكون الوثبة الأولى لشرائح اجتماعية معينة، هي إطلاق العنان لغرائزها الحيوانية كمقدمة للتعبير عن تقديس الحريات.
وثمة كائنات بشرية ستبقى على طول الخط كارهة للخطاب الوعظي، ليس لأنها متحررة من فكر الوصاية ولا لأنها تقدّس حرية التفكير، بل لكونها غارقة في إباحيتها.
لكن علينا أن نعترف: ثمن الحرية باهظ للغاية، لدرجة أن المؤمنين بحرية التفكير وحرية الانعتاق من العادات الرديئة هم معادن ثمينة لا يمكن الحصول عليهم بسهولة.