النجف والحوزة والمرجعيَّة

آراء 2024/05/12
...








 غيث التميمي


أهمية وجود مؤسسة المرجعية الدينية العليا للمسلمين الشيعة في العالم، بمدينة النجف الأشرف وسط العراق، لا يمكن اختزالها بوظيفة دينية إرشادية محدودة التأثير.

المرجعية العليا تمثل رأس الحوزة الدينية وهي، حاضرة يدرس فيها اللاهوت والتراث الديني الإسلامي، استنادا إلى طرق تدريس كهنوتية تقليدية معقدة، وهي متقدمة في دراسات اللغة والأدب والتراث والثقافة الإسلامية والعربية، على صعيد دراسة العقائد والفقه والأصول والحديث والرجال والتفسير واللغة والفلسفة والمنطق والأدب وغيرها.

كما تدير المرجعية شبكة مصالح مالية واقتصادية عملاقة جدا، تتمثل بالأوقاف والاستثمارات الدينية وأموال الزكاة والصدقات والتبرعات والمنح، المخصصة لدعم ورعاية العتبات والمساجد والحسينيات والمزارات والحوزات والطقوس والشعائر الدينية الكبيرة.

كما يمتد تاثير المرجعية إلى العوامل الاجتماعية والثقافية، ذات الأثر الكبير في الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية. وذلك بسبب حضورها الروحي والمعنوي المؤثر على المستوى العالمي وليس المحلي فحسب، وأفضل مثال على ذلك الفاتيكان.

مؤسسة المرجعية ليست مشروعا استثماريا، بمقدور اية دولة انفاق الأموال وتوفير الظروف الملائمة للاستثمار فيها، هذا النوع من المؤسسات الاستراتيجية الكبرى، تخلقها عوامل وظروف شديدة التعقيد، حتى تصبح بهذا المستوى من التأثير والحضور.


إشكاليَّة الأعاجم 

يتردد كلام حول سبب تقلد رأس المرجعية العليا، للمراجع من الأصول غير العراقية أو العربية، وخصوصا من الإيرانيين الفرس أو الترك أو غيرهم، مثل الهنود والأفغان والباكستانيين.

يتساءل هؤلاء الناس بدافع الرغبة بالاستقلال الديني، عن طريق مرجعية عراقية عربية في النجف. وبتصوري هذا فهم قاصر ومحدود، بالنظر إلى طبيعة المرجعية العليا والمؤسسات الدينية المرتبطة بها.

مؤسسة المرجعية كيان مصمم ليكون عالميا، يجمع بين صفوفه العرب من اغلب الدول العربية، بالإضافة إلى الإيرانيين والأتراك والأفغان والباكستانيين والهنود والأذربيجانيين والأفارقة والأوروبيين والغربيين، بل في الحوزة يابانيون وصينيون وشعوب وثقافات آسيوية عديدة.

هذه المؤسسة لا يجوز ان تتحول إلى المحلية، بسبب قلق العراقيين العرب الشيعة. وبعض العرب اللبنانيين والسعوديين والكويتيين والبحرينيين.

دوافع قلقهم سببه الخوف من هيمنة المشروع الثوري الخميني الإيراني على المنطقة، عبر استغلال مؤسسة المرجعية والحوزة الدينية والعتبات والطقوس والشعائر.

بتصوري ان «نجف العراق» هي الموقع الأكثر موثوقية بالنسبة لدور المرجعية الدينية العليا والحوزة العلمية، خصوصا وهي تحظى بالمكانة المرموقة والمعظمة بالنسبة إلى المرجعيات والحوزات الدينية الشيعية، في ايران ولبنان وبقية البلدان التي يتواجد فيها الشيعة، بما في ذلك دول الخليج العربي وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

لذا اعتقد ان القلق والتخوف ليس من جنسية أو هوية المرجع الأعلى أو من اي بلد جاء، الأهم والمهم بصورة لا يجوز ان نختلف عليها كعراقيين وكعرب سواء كنا شيعة أو غير ذلك، هو بقاء النجف مركز المرجعية الدينية الإسلامية الشيعية العليا وحاضنة الحوزة الدينية الشيعية الإسلامية العالمية.

هذا هو المكسب الاستراتيجي وإذا كان ثمن بقاء فاعلية النجف وعالميتها، ان لا يكون المرجع الأعلى عربيا أو عراقيا، فليكن، لان مؤسسة المرجعية لا تعتمد على هذا النوع من التصنيف، كما هو الحال في بقية المؤسسات الدينية.

توفي عام 1999 أهم مرجع في علم الحديث عند المسلمين السنة، وخصوصا اتباع المنهج السلفي، وهذا العالم ألباني، ليس عربياً، لكنه عاش حياته في خدمة العلم والحديث والفقه في بلاد العرب. ومنها ذاع صيته حتى حصل على جائز الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود للدراسات والبحوث الإسلامية. وهو العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.

لم يتوقف العرب المسلمين طويلا عند اصله ونسبه وقوميته وجنسيته، لأنه عاش للإسلام والمسلمين والفقه والحديث واللغة والشرع والدين، بعيدا عن ممارسة أي نشاط سياسي أو الانخراط في تعبئة أيديولوجية خارج إطار الشريعة والدين، بغض النظر عن طبيعة اجتهاده وفتاواه.

هذا النوع من التعامل مع المرجعيات الدينية، موجود في كل الديانات العالمية، وخصوصا اليهودية والمسيحية والإسلام. الشيء الوحيد الذي ينبغي أن نتفق عليه كعراقيين، هو اهمية وضرورة بقاء النجف مركز المرجعية الدينية العليا في العالم، وبقاء الحوزة الدينية وعلمائها وطلابها ودروسها ومكتباتها وطرقها وتقاليدها، تبقى مصونة موقرة آمنة في كوفة العرب والمسلمين وعاصمة التشيع في العالم.

هذا أعظم مكسب استراتيجي لديمومة الاستقلال الديني وتعزيز إمكانية العيش المشترك، على أساس الوئام والتضامن والتعاون في بيئة دينية وروحية متنوعة  ومتعددة