ثامر عباس
على الرغم من اندياح صيت العقيدة الماركسية على مستوى جهات العالم الأربع، بسبب كونها من أكثر الفلسفات تعبيرا»عن التصورات (العقلانية)، وأشدّ المنهجيات تمسكا بالأساليب (الواقعية). إلّا أنها وبرغم ذلك – وربما بسبب طابعها الكوني ونزوعها الشمولي – تعد من أكثر الفلسفات عرضة لسهام (النقد) وطعون (المراجعات)
منذ أن أبصرت النور عند منتصف القرن التاسع وحتى يومنا هذا، ليس فقط من جانب خصومها العديدين وأعدائها المتنوعين فحسب، وإنما من قبل المنتمين إليها والمحسوبين عليها من مختلف تيارات الأنصار والمشايعين أيضا.
ولما كانت الماركسية تتكون من ثلاثة أقسام رئيسية هي؛ المادية بشقيها الفلسفي والتاريخي، والاقتصاد السياسي، والشيوعية العلمية. فقد أثيرت حول الأقسام المتعلقة بقضايا التاريخ وشؤون المجتمع الكثير من التساؤلات والعديد من الإشكاليات التي لا يبدو أنها ستقف أو تنتهي عند حدّ معين، طالما أن مباحثها تتناول تلك القضايا بطريقة أعمق وأوسع مما تفعل بقية الأقسام المعنية بالجوانب الفلسفية المجردة. ولعل مسائل من مثل؛ مراحل التطور الاجتماعي، وأنماط الإنتاج الاقتصادي، والتشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية، كانت الشغل الشاغل لأجيال متعاقبة من المنظرين والباحثين الماركسيين، الذين حاول كل واحد منهم إثبات وجهة نظره الخاصة حيال الكيفية التي تعمل بها السيرورات والديناميات والتفاعلات المسؤولة عن حصول التغييرات والتطورات في البنى والأنساق والسياقات، على إيقاع الأواليات الجدلية، التي تخترق الظواهر الاجتماعية عموديا وأفقيا لتعيد تشكيلها على نحو دائم.
وفي هذا الإطار، فقد تربعت مقولة (التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية) وما يترتب عليها ويتمخض عنها من (أنماط إنتاجية) متنوعة، صدارة الجدالات النظرية والنقاشات المنهجية لا على مستوى العالم الغربي بصيغ فلسفات ونظريات ومنهجيات فحسب، بل وكذلك على مستوى العالم الشرقي ولواحقه بصيغ خلافات واختلافات وتقاطعات. ففي الوقت الذي لم تعد فيه الأطروحة الماركسية التقليدية حول التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الخماسية (المشاعيَّة، والعبودية، والإقطاعية، والرأسمالية، والشيوعية) تحظى بالقبول والموافقة من لدن الكثير دون نقاش أو تساؤل كما لو أنها معطيات تعلو على الواقع وتتسامى فوق التاريخ، بحيث ينظر إليها كمعيار مطلق لكشف ميول (الأصدقاء) أو (الأعداء) الافتراضيين، سواء ممن ينتمون إلى معسكر اليسار أو ينخرطون في مواقف اليمين.
ولذلك فقد أظهرت الدراسات والبحوث التاريخية والاقتصادية والاجتماعية اللاحقة التي أنتجها طيف واسع من الماركسيين (الجدد)، إن جدليات التطور والتغير في المجتمعات البشرية من التعقيد والتشابك والتفاعل بحيث لا يمكن حشرها ضمن أطر نظرية ثابتة أو صبها في قوالب إيديولوجية جامدة. وهو الأمر الذي حدا بالانثروبولوجيين الغربيين (كريس هان) و(كيث هارت) تضمين كتابهما المشترك (الانثروبولوجيا الاقتصادية)، بعض الإشارات والملاحظات المنهجية التي مؤداها ((ان أفكار ماركس عن تعاقب أنماط الإنتاج في التاريخ هي، في أحسن حالاتها، أفكار تمهيدية))، مثلما ان ((الانثروبولوجيا الاقتصادية عند ماركس هي مجموعة من البناءات التحليلية عن نمط الإنتاج الرأسمالي، يعدّلها وعي العالم الذي سبق الرأسمالية ويقع خارج نمطها .
والحقيقة ان هذه الإشارات والملاحظات لا تعدو أن تكون تتويجا لسلسلة طويلة من السجلات المتقادمة والتحليلات المتراكمة، التي اندلع النقاش حولها منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي تعبيرا عن طبيعة الانقسامات الحاصلة داخل المعسكر الشيوعي - الماركسي ذاته حول جملة من القضايا الفكرية والمنهجية التي لم يعد ممكنا تخطيها أو تجاهلها. ففريق أول استمر مصرا على التمسك بالمقولات والأطروحات التقليدية التي تعكس الصور النمطية لسيرورة التشكيلات (الخماسية)، دون السماح بإدخال أية تعديلات يمكن أن تحيد عن الصراطات المستقيمة التي أضحت من جملة عوائق تطور العقيدة الماركسية. في حين ارتأى فريق ثان ضرورة إخضاع تلك المقولات والأطروحات لسنّة التطور الاجتماعي، ليس فقط تمشيا مع المنهجية الديالكتيكية للماركسية التي شكلت حجر الأساس في منظوماتها فحسب، وإنما لمواكبة التحولات النوعية التي لا تفتأ تتعرض لها المجتمعات الغربية والشرقية على حدّ سواء. وفي خضم تلك السجالات والجدالات العاصفة والساخنة في بعض الأحيان، ظهرت العديد من الآراء والأفكار الداعية إلى الخروج عن قوالب النسق التقليدي لأنماط الإنتاج (الخماسية) المتداولة، والتي اجترحت بالأصل كمقاربة لتفسير الإيقاع التطوري في المجتمعات الغربية، كون هذه الأخيرة لا تستجيب أو لا تتوافق مع أشكال التمرحل الإنتاجي للمجتمعات الشرقية – الآسيوية كما أوضح أصحاب تلك الآراء. وكما لاحظ المؤرخ والمفكر الاقتصادي العراقي (عصام الخفاجي) انه (( في أواخر الستينات وطوال السبعينيات كانت الموضة السائدة بين الانثروبولوجيين الماركسيين أن يختتموا دراساتهم العميقة لمناطق أو جماعات معينة بمحاولة البرهان على أن تلك الأشكال من التنظيم الاجتماعي التي درسوها تمثل نمط إنتاج متميز، فخرج علينا دوبري وراي بمفهوم (نمط الإنتاج السلالي)، في حين وصفت كوكري فيدوفيتش ما أسمته (نمط الإنتاج الإفريقي) )). هذا بالإضافة إلى (نمط الإنتاج الآسيوي) الذي سبق لماركس أن أشار إليه في إطار تحليلاته لبنى المجتمعات الزراعية ما قبل الرأسمالية، مثلما (نمط الإنتاج البدوي) الذي اقترحه المؤرخ (بيري أندرسون) لتفسير الطبيعة النوعية لتلك المجتمعات التي لا تزال عالقة بين الطورين البدوي والإقطاعي.
أخيرا، ولأن طبيعة الموضوع لا تتناسب وحجم المسموح به ضمن هذه الصفحة، فإننا نأمل أن الإجابة عن سؤال؛ هل يعكس هذا التشظي في المقولات والمصطلحات دلائل (مكاسب معرفية أو انحرافات أيديولوجية)، ستكون حافزا لمقالات أخرى.