شيءٌ عن عوالم مظفر النواب

ثقافة شعبية 2024/05/16
...

 فرات المحسن 

تنقل النواب بتنوع قصائده المدهش والمبهر بين القصيدة الشعبية والقصيدة باللغة الفصحى وأجاد بكلتيهما، وشكلت قصائده عالمها الخاص الذي اكسبها بعدها الثوري وجعلها نصوصا نادرة تتلقفها الجماهير لتجعل منها نشيدا يتردد عند العديد من المنعطفات والأزمات.  

امتاز شعر مظفر باللغة الدارجة، بقدرة فذة ورائدة، على رسم الصورة بمفردات ذات عمق ودلالات وإيحاء فريد، يكثف فيه الحس الإنساني بسلاسة مبهرة وأناقة طاغية دون تكلف أو صنعة وتأتي المفردة برشاقة جمالية تعطي النص روحا ونغما وسعة وفسحة وثيرة من الأحاسيس الشفافة المزهرة بالعذوبة، حتى وهو يرسم حالات الأسى واللوعة، فمظفر  في حياته اليومية ذو خصال إنسانية فريدة، عنيد ومشاكس ألمعي وحكيم، وفي نفس الوقت ودود عفوي ومحب وسهل وباسم تستميله المفردة ذات النغم المنمق الجميل المفعمة بالعاطفة 

والشجن.

يا حزن ياما  نطرتك

وأنت بيه بثوبي بعيوني بمخدتي

أنا اعشكَك يا أحب طيور الله، واشتهيتك 

يا حزن وك يا حزن 

ياما اشتهيتك

نشر أول قصائده الشعبية الريل وحمد عام 58 ليكون أول فتح للقصيدة الشعبية المدينية، حيث طوع جمالية الريف ومفردات بيئتها ليقارب بتوهجاتها عوالم المدينة فأعطى القصيدة الشعبية بعدا جديدا جعله شاعرا مميزا مجددا لروح القصيد الشعبي.

في جميع تراتيل شعره العامي والفصيح  كان النواب يتوهج ليصدح بصوت جهوري عن صرخة لا تهادن ولا تعرف الحياد، عاش ومات وهو ينشدها في كل محفل، ويعلن فيها انحيازه  للفقراء والمظلومين، ورفض المساومة واختار النضال كطريق لمسيرته الحياتية الطويلة التي لم تتوقف عند أعتاب شعره، فقد استعار الناس صوته ليكون صداحا مرعبا للعديد من السلطات ولم يقتصر هذا على حكام بلاده العراق. هو المديني سابر أغوار الثقافة الريفية وعوالمها النفسية والحسية والباحث عن غريب مفرداتها وأكثرها إضاءة وحيوية وعمقا، وقد استطاع أن ينقل عبر قصائده بلغتها الشعبية الدارجة الكثير من عوالم البيئة الاجتماعية في ذلك التشكيل الغريب والمجهول والتقليدي، ليكشف لنا عن مكنونات محبة وعشق متوقد في الأرواح وترافة تزهر بها تلك الربوع حيث تخوم الجنوب العراقي الطرية المفعمة بالبساطة والخضرة وأصوات الطيور وهسيس النخل وعوالمه النضرة وأسراره السحرية. ولم يقف النواب عند تلك المفردات بعذوبتها وبروقها المنتقاة، بل راح  يعري القبح والقسوة التي تفرش  بشاعتها ووحشيتها على تلكم الحيوات، مواكبا التأثيرات السياسية والاجتماعية التي طرأت على حياة الأرياف. فنراه يقترب ليلامس بيئتها المتفردة ويرسم لوحاته الشعرية عبر ألوان المساحات المترامية لمياه الاهوار الرقراقة وبرديها وسمائها الواسعة المفتوحة وحوافها المؤطرة بخضرة البساتين حيث اتخذ الإنسان منذ القدم، تلك الطبيعة ليصنع معها نسيجا خاصا متفردا. ومن تلك الأماكن راح مظفر. ينتقي أبطاله وينسج صوره الشعرية.  ومن بين صناع الحياة في تلك البيئة المفعمة بالقوة والقسوة أختار فتيانه البواسل ليجسد في شخوصهم زهو الحياة وعمق النبل الإنساني بأبهى صوره، وبأسمائهم الصريحة والحقيقية، حجام وصويحب وعشاير سعود ولعيبي وغيلان. هكذا كان مظفر ينتقي شخوصة بنباهة وحكمة ويصف حالهم وما يعانونه من اضطهاد وعذاب وقسوة. يختارهم بدقة العارف كأبطال ميامين لا يقفون مكتوفي الأيدي خاضعين، بل تفصح قصيدته عن صور حية لنضالهم وقوة شكيمتهم وبطولاتهم وبأسهم في التصدي ومقارعة الاستبداد السلطوي والإقطاعي. 

تنذل أنجومج يالدنيه 

وعيناي بليلج مشتعله 

وانشابجلج مية منجل 

تنضح دم 

وانشلح الدولة 

هكذا كان مظفر النواب بارعا مزهرا ألمعيا حكيما مبشرا عبقريا لماحا ليتوج باقتدار على أعلى قمة في الشاعرية الشعرية الشعبية العراقية فلروحه السلام الأبدي.