سلام مكي
المقابر الجماعية، حكاية جرح كان ينزف بصمت رغم كثرة الدماء وغزارة الدموع، التي كانت الأمهات تذرفها على أبنائها.. لكن بمجرد سقوط النظام صرخت المقابر بأعلى صوت لها، صرخات الأطفال والرجال والنساء، كلها تجمعت وانطلقت بصوت واحد، بمجرد أن بزغت شمس الحرية، فكان الصوت مدويا، هزّ الضمير العالمي كله، الذي وقف مصدوما جراء الكشف عن ممارسات القتل الممنهج، الذي كان النظام السابق يمارسه بحق العراقيين.
لعل أول دليل نطق على بشاعة النظام قبيل سقوطه بأيام هي المقابر الجماعية، تلك التي نادت على الجميع: أنا هنا، حيث ما زالت صرخات الأطفال والنساء تملأ التراب، ما زالت مقتنياتهم الشخصية، على حالها، كما دموع أمهاتهم، التي لم تنضب يوما.
لعل من المفجع والأكثر فداحة في الحياة، أن أبا كان يعيش على أمل أن يعثر على ولده، الذي اختطفه النظام ذات يوم وهو على قيد الحياة، وهذا الأمل تجدد حين سقط النظام، لكن ما حدث أنه وجد ابنه عظاما بالية، أو مجرد رفات تحتضنها خرق بالية، هي كل ما تبقى من ذلك الولد أو الأب أو الطفل أو الزوجة..
المقابر الجماعية، حكاية جرح كان ينزف بصمت رغم كثرة الدماء وغزارة الدموع، التي كانت الأمهات تذرفها على أبنائها.. لكن بمجرد سقوط النظام صرخت المقابر بأعلى صوت لها، صرخات الأطفال والرجال والنساء، كلها تجمعت وانطلقت بصوت واحد، بمجرد أن بزغت شمس الحرية، فكان الصوت مدويا، هزّ الضمير العالمي كله، الذي وقف مصدوما جراء الكشف عن ممارسات القتل الممنهج، الذي كان النظام السابق يمارسه بحق العراقيين. وحسنا فعلت الدولة، حين قررت جبر خواطر ذوي المقابر الجماعية، عندما أعطتهم حقوقا مالية وعقارية، كتعويض عما مروا به، وعن خساراتهم الفادحة، رغم أن أموال الدنيا كلها لا تفي حق دمعة أم أو زوجة.
المقابر الجماعية ليست مجرد جريمة تضاف إلى جرائم النظام السابق، إنما هي جرح تفجّر مجددا بمجرد اكتشاف أول مقبرة، وقيام الأهالي بزيارة تلك المقابر على أمل العثور على دليل يؤكد لهم مصير أبنائهم.
فكان موتهم، على دفعتين: الأولى حين اختطفوا على يد قوات النظام عام 1991 أثناء الأحداث وكذلك ما بعد هذا التاريخ وما قبله، والثانية: حين تم الكشف عن مصيرهم.
وأي مصير ذلك الذي يتحول المرء فيه إلى كومة عظام! لا لشيء إلا لأن النظام أرادهم أن يكونوا كذلك حتى يطمئن قبله، وأي نظام ذلك الذي لا يقوم إلا على جماجم أبنائه! إنه النظام الدكتاتوري الذي قتل وشرّد ودفن آلاف الأحياء في مقابر جماعية دون سبب، أو حتى يرضى القائد الضرورة، وهو يشاهد الشباب العراقي يساقون إلى الموت.
إن استذكار ضحايا المقابر الجماعية هو واجب على كل مؤسسة ودائرة رسمية وغير رسمية، فهم كانوا ضحايا لعنف وهمجية النظام، كانوا ضحايا لنزعة القتل، التي جبلت عليها السلطة آنذاك، لا لشيء إلا لدفع خطر لا وجود له، إلا في مخيلتهم فقط! وإلا فكيف يمكن لطفل أو مراهق أو لامرأة أن تكون خطرا على النظام، وبالتالي يستحقون القتل! النظام أباح بل وأمر بقتل كل من يجده خارج بيته في ذلك الوقت، وكل من يقال عنه أنه شارك في الانتفاضة، أما قبل الأحداث فكان الموت يزور العراقيين نتيجة لوشاية أو رغبة مسؤول حزبي أو حكومي بقتل الناس، أو لطلب المسؤول الأعلى اعدادا محددة بشكل يومي، يكونون تحت التراب!.
لعل بابل، كانت صاحبة النصيب الأكبر من المقابر الجماعية، فالمحاويل القضاء التابع لمحافظة بابل، ضمّ عددا كبيرا من المقابر، وكل مقبرة حوَت رفاة المئات من الشهداء، الذين قضوا على يد أزلام النظام.
ليست المحاويل فحسب، بل مركز قضاء الحلة، أيضا كان له نصيب في المقابر، كيف لا والحلة كانت محطة مهمة للمنتفضين ضد النظام. الحقيقية الأهم أن ثمة مقابر ما زالت لم تكتشف، والدليل وجود عدد كبير من المفقودين الذين لم يتم العثور على رفاتهم حتى الآن. ولا نعلم أين دفنوا؟ ربما تحت بناية دائرة حكومية أو بيت أو شارع.
ومؤخرا عثر على رفات عدد من الشهداء أثناء عمليات الحفر في أحد شوارع مدينة الحلة، في منطقة تقع في قلب الحلة، وهي مركز المدينة، لكن أثناء الحفر، تم العثور على المقبرة. فإذا كان النظام يدفن في الشوارع، فكيف بالمناطق النائية؟ ماذا سنجد مستقبلا في أطراف المدن وخارجها؟
ليس في الحلة وحدها تكثر المقابر، بل في أغلب المدن والمحافظات، فأين ما وجد ثائر ضده، هنالك مقبرة.