ابراهيم العبادي
إن أحد اكبر نواقص التجربة السياسية العراقية المعاصرة هو غياب الرؤية العميقة للمشكلات الاجتماعية والسياسية وافتقاد القوى والزعامات والاحزاب لمنهج بناء الدولة، فلم تتوفر المعارضة السياسية على رؤية واضحة لستراتيجية بناء الدولة، وكان هدفها اسقاط النظام الشمولي دون خطة بديلة للادارة والتأسيس وقيادة المجتمع.
تزدحم الذاكرة السياسية العراقية المعاصرة بالأحداث الكبيرة منذ ما قبل التأسيس الاول للدولة عام 1921، لكل من هذه الاحداث تداعيات ومضاعفات وآثار ونتائج مباشرة وغير مباشرة على الثقافة السياسية والسلوك السياسي لاحقا.
من بين الاحداث التي كان لها حضور في التاريخ والذاكرة العراقية، كان اغتيال رئيس مجلس الحكم الانتقالي عزالدين سليم ومرافقيه في السابع عشر من ايار/ مايس 2004. يومها كان العراق يعيش صدمة سقوط النظام وتشكيل مجلس الحكم واعلان قانون ادارة الدولة الانتقالي وانطلاق عمليات الارهاب والقتل والاغتيالات، وانقسام الشارع بين من يدعو إلى الانخراط في الاعمال المسلحة ومقاومة الاحتلال، وبين من ادرك مبكرا ان فوضى السلاح وتشكيل الجماعات المسلحة تحت أي مسمى ولاي هدف سام أو معقول سترتد وبالا على العراق، لأن البلاد دخلت وضعا استثنائيا كان يقتضي رجال دولة من طراز فريد، لايستسلمون للدعوات الشعبوية ولا للثقافة السائدة المعلبة التي تفكر بيومها ولاتنظر لغدها، لم يدرك عراقيون كثر الخسارة الكبيرة التي لحقت بالعراق، من جراء فقدان شخصية سياسية -اجتماعية كعزالدين سليم. فقد كان سليم من الطراز الذي يحسب حصاد المستقبل بما يتم بذره وزرعه في الحاضر، وقد وجد بالفعل أن البلاد كانت تحتاج إلى هندسة سياسية- اجتماعية تعيد ما تهشم على صعيدي الوعي والهوية والبناءات الفوقية.
جاءت لحظة اغتيال عزالدين سليم ضمن مخطط مدروس لمنع بناء الدولة مجددا، بعد انهيارها اعتمادا على الرؤى العاقلة المتأنية التي لا تندفع مع الشعارات الشعبوية، ولا تستجيب لدواعي التحريض والثأر والانتقام والانسياق بلا وعي مع دعوات مقاومة المحتل بالسلاح بلا مشروع سياسي بديل ولا امكانات عملية ومادية لمواجهة حالة الانهيار والفوضى الاجتماعية والسياسية، التي ضربت البلاد عشية سقوط النظام الاستبدادي.
يلاحظ على الثقافة السياسية العراقية تفضيلها الخيارات السهلة المريحة النابعة من التراث السياسي الميال إلى تأكيد الأنا في مقابل الاخر، بصرف النظر عما تتكبده الأنا من خسارات وضياع للفرص، فيما تبدو الافكار والرؤى العقلانية التي يحتاجها مشروع بناء الدولة مغتربة وبعيدة عن تفكير العامة والزعامات الطامحة، في هذا المفصل يتمايز رجال السلطة ورجال الدولة، رجال الدولة هم الاباء المؤسسون لكل بناء يراد له ان يترسخ ويستوعب التطلعات والمصالح العامة ويؤمن المستقبل، رجال الدول يفكرون بادارة الاختلاف والتنوع والانقسامات العمودية والافقية بحرص شديد ورؤية واقعية، رجال الدولة يحاكون تجارب العالم الناجحة ويقرأونها ببصيرة المتعلم، ليبنوا تجربتهم الخاصة وفقا لسيكولوجية شعوبهم وثقافتها وجفرافيتها السياسية.
إن أحد اكبر نواقص التجربة السياسية العراقية المعاصرة هو غياب الرؤية العميقة للمشكلات الاجتماعية والسياسية وافتقاد القوى والزعامات والاحزاب لمنهج بناء الدولة، فلم تتوفر المعارضة السياسية على رؤية واضحة لستراتيجية بناء الدولة، وكان هدفها اسقاط النظام الشمولي دون خطة بديلة للادارة والتأسيس وقيادة المجتمع.
فقيدنا الراحل (عزالدين سليم) كان من رجالات الجيل الثاني للحركة الاسلامية العراقية، الجيل الذي سيطرت عليه الاهتمامات الحركية والتنظيمية والمبادئ والأسس العامة، ثقافة هذا الجيل ثقافة دعوية تبشيرية عمادها الاسس الشرعية والطهورية الاخلاقية والمفاهيم الدينية وينقصها كثيرا الثقافة السياسية العميقة والتجارب البيروقراطية، جل ثقافة هذا الجيل لم تكن قادرة على صنع رجال دولة، لأن رجال الدولة تصنعهم التجارب السياسية والرؤى العميقة في الادارة والثقافة والاقتصاد والعلاقات الخارجية.
ما تميز به عزالدين سليم كان وعيه المبكر بخطوط الانقسامات المجتمعية والسياسية والقومية والطائفية، ورؤيته المتسامحة المتعالية على الجراح، واعتدال مزاجه الاجتماعي، واستيعابه لدروس التاريخ العراقي الوسيط والحديث والمعاصر، كان الراحل لا يشاكل ابناء جيله في تقديم الطموحات الايديولوجية والمبادئ الاصولية على تعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي، ادهشني في تحليله العميق للواقع المجتمعي العراقي غداة استشهاد السيد محمد الصدر في عام 1999، كان يرى خطر نتائج الاستلاب والقهر الذي انتهى اليه شيعة العراق والاغلبية المجتمعية، على الشخصية والثقافة ويرى المستقبل القريب بعين الخبير البصير ويحذر من ذلك اشد التحذير، كان يقول إن العراق المنهك والمجتمع المسحوق سيكونان معضلة ومشكلة مستعصية بعد سقوط النظام، بل إن رؤيته العميقة كانت تذهب إلى حلول سلمية لمشكلة السلطة والنظام السياسي لو كان النظام يتوفر على اقل القليل من النضج والفهم، اخبرني ونحن في رحاب بيت الله الحرام بانه التفاوض مع السلطة على حل سياسي امر ممكن لوقف التدهور العراقي الشامل لو لم يكن صدام وعصابته على رأس السلطة بهذه العقلية الاجرامية، بعد سقوط النظام خطط عزالدين سليم لبناء تحالف سياسي -اجتماعي بين القوى الاسلامية والقوى العلمانية لمنع تكرار الصراع الايديولوجي، وكان يذهب إلى استيعاب الاتجاهات الوطنية والقومية وعدم التقاطع معها لعبور المرحلة الانتقالية، كان يرى خطر الفقر والبطالة والتخلف الاقتصادي على مسيرة الدولة، وكان يحذر من خطورة المواقف الطائفية والقومية داخليا وعلى علاقات العراق الخارجية.
روح الاعتدال والفهم الواسع للاشكاليات السياسية داخليا وخارجيا كانت تؤهله لتدوير الزوايا واختصار الزمن قبل تكرار تجارب الاحتراب والتعصب وصراع الهويات والاحزاب والزعامات. خسر العراق رجل دولة أو قل مشروع رجل دولة وسطي في مرحلة ساد فيها التشدد والتعصب وقصر النظر.