بعد تطهيرها من عصابات الجريمة.. البتاويين تنشدُ إعادة رقيّها العمراني والسكاني
يوسف المحمداوي
تصوير: نهاد العزاوي
الأمكنة في بلادي تشعرك كصحفي باحث عن أهميتها في أغلبها تثير الفتنة وتغريك في الكتابة عنها، لكونها وفي كل بقعة منها تحمل أرشيفاً من ماض تملؤه ذكريات زهو ومواقف فخر، ولطالما غنيت لها بعفويَّة العاشق أثناء زيارتي لها مع الفنان محمد عبده «الأماكن إلي مريت انت فيها.. عايشة بروحي وأبيها.. كنت أظن الريح جابت عطرك يسلم علي.. كنت أظن الشوك جابك.. تجلس بجنبي شوي.. الأماكن كلها مشتاقة لك»، لكن زيارتي للبتاويين تحتم علي أن أكملَ رائعة المطرب لتجدني أقول «بس لكن ما لقيتك.. جيت قبل العطر يبرد.. قبل حتى يذوب في صمت الكلام.. كنت أظن.. وكنت أظن.. وخاب ظني وما بقى بالعمر شي»، نعم بتاويين ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لم تعد موجودة بحكم الهجرات التي حكمت سكنتها، بحكم الحروب والحصارات التي عاشتها البلاد.
خمسون مدينة خطيرة
الاستغراب الذي يثيرعقولنا ومخاوفنا من الحوادث المؤلمة والمريرة التي تعيشها منطقة البتاويين وسط بغداد، ما هو إلا نتاجٌ طبيعيٌّ للبيئة التي يعيشها المواطن العراقي في الحقب الزمنيَّة الماضية، وما زاد الدهشة والاستغراب مصحوباً بالمرارة هي الحالات الدخيلة على مجتمعنا المسالم والآمن، كالتجارة في الأعضاء البشريَّة، وانتشار المخدرات، والدعارة والشذوذ الجنسي، وعصابات الإجرام والتسول، الإقامة غير المشروعة في تلك المنطقة من بعض مواطني دول العالم، وكأنها خارج حدود العاصمة وسلطة قانونها وغيرها من الأمور الغريبة التي أخذت تستعمر عقول وأجساد الشباب العراقي من الجنسين.
البتاويين وما يحدث فيها ليس بالأمر الخارج عن المألوف، إذا ما قورنت بالكثير من مدن دول العالم المتطورة، أما في مجتمعنا فهي غريبة وشاذة، ففي إحصائيَّة لمجلس المواطنين للأمن العام والعدالة الجنائيَّة في المكسيك إنَّ هناك (50) مدينة خطيرة في العالم احتلت فيها مدينة «نيو اورليلانز» في ولاية «لويزيانا» الأميركيَّة المرتبة الثامنة من بين المدن الخمسين، وأشارت الإحصائيَّة التي نشرها موقع «استاتيستا» على الشبكة العنكبوتيَّة الى أنّ أغلب أعمال العنف في أميركا تتعلقُ بتجارة المخدرات وبحرب العصابات للسيطرة على تلك المدن، وعلى الرغم من تفشي الجريمة في تلك الدول المتقدمة إذا ما قورنت بالعراق علينا اتخاذ القرارات الحاسمة وتطبيق القانون في جميع محلات ومناطق العاصمة لتكون النموذج الأمثل لبقيَّة مدن البلاد، وبعد انشغال الحكومات السابقة ما بعد التغيير بمحاربة الإرهاب والقضاء عليه بجميع مسمياته، كان لزاماً على الحكومة الحاليَّة أنْ تلتفتَ لهذا الجانب المظلم من العاصمة وفرض سلطة القانون عليه، لا سيما أنَّ محلة (101) البتاويين هي الأولى، بل أصبحت العاصمة الفعليَّة لكل ما هو ممنوعٌ ودخيلٌ على مجتمعنا الذي تتباهى الدنيا بحضارته.
تعاون القوات الأمنيَّة
دخلنا أنا وزميلي المصور نهاد العزاوي لمنطقة البتاويين من جهة ساحة النصر بعد الحملة الأمنيَّة التي تقودها وزارة الداخليَّة ضد مركز الجريمة في بغداد، لكنْ فوجئنا برفض القوات الأمنيَّة لتواجدنا لعدم حصولنا على موافقة من الجهات الأمنيَّة العليا، لكنْ وللأمانة نقولها بعد اتصال القوات المنتشرة بقياداتها الأعلى ومعرفتهم بأنَّنا من منتسبي شبكة الإعلام العراقي ومن جريدة «الصباح» بعد إبراز هوياتنا الإعلاميَّة جاءت الموافقة وفتحوا شوارع البتاويين وأزقتها وبيوتاتها لنا بكل رحابة صدر، لنلتقي بالعديد من المواطنين العراقيين والعرب المقيمين هناك، فضلاً عن كوننا شاهدنا وبالعين المجردة وليس عن طريق السمع أو النقل الإعلامي حجم الطفرة النوعيَّة صوب الاستتباب الأمني الذي تعيشه المنطقة بعد الحملة الأمنيَّة، فالحواجز الكونكريتيَّة التي كانت تملأ الأزقة قد أزيلت بالتمام، التجاوزات التي كانت تملأ شوارع البتاويين من الأكشاك والبسطات العشوائيَّة والعربات الخشبيَّة لم يعد لها وجود، ساحات وقوف العجلات التي كانت تسيطر عليها العصابات أصبحت مجانيَّة وتحت سيطرة الحكومة، الدور السكنيَّة المتجاوز عليها من قبل العصابات تمَّ إخلاؤها والسيطرة عليها.
غلق محال المشروبات الكحوليَّة
المواطن حسن فريح (سائق تكسي) يعملُ منذ عقودٍ في منطقة البتاويين بين لـ»الصباح»، أنَّ «المنطقة تحولت 180 درجة، فمن منطقة وساحة تمرحُ فيها العصابات المتخصصة بأنواع الجرائم، أصبحت منطقة هادئة وآمنة بوجود رجال الأمن»، ويضيف «الحواجز الكونكريتيَّة التي كانت تعيق حركة السير للعجلات وللمواطنين قد أزيلت، وكذلك مكبات القاذورات التي تجدها في كل مكانٍ قد أزيلت بالتمام من قبل أمانة العاصمة، واليوم تجد عجلات الأمانة منتشرة في المنطقة من أجل تنظيفها بحسب قول فريح، وكما شاهدناها نحن وقمنا بتصويرها». زيزوضح «الحركة اليوميَّة للمواطنين لم تكن كالسابق والوارد المالي أصبح شحيحاً بعض الشيء بحكم كونها في السابق كانت الملجأ بل المركز المفتوح ليلاً ونهاراً لبيع المشروبات الكحوليَّة حتى في المناسبات الدينيَّة، لذلك تجدها مزدحمة دائماً، لكنها اليوم وبعد غلق تلك المحال مع العربات التي تبيع للمخمورين الفواكه والمأكولات السريعة، أصبحت المنطقة شبه خالية إلا من ساكنيها وأصحاب المحال التجاريَّة والصيدليات وبعض المواطنين المراجعين لعيادات الأطباء المنتشرة في المنطقة أو بعض الوافدين إليها من المحافظات الأخرى ليسكنوا في فنادقها لكون المبيت فيها بأسعارٍ مخفضة إذا ما قورنت بمبالغ فنادق بغداد في المناطق الراقية».
عصابات متخصصة
المواطن سيد (أبو عبدو) سوداني الجنسية، يعيشُ في البتاويين منذ أربعين عاماً ومتزوج من عراقيَّة، بين لنا أنَّ «البتاويين اليوم تعيشُ حالة من الاستقرار النسبي الذي افتقدناه بعد العام 2003، لأنَّ المنطقة كانت بالأمس مركزاً علنياً لكل ما هو ممنوعٌ وخارجُ سلطة القانون»، وأكد أنَّ «محال بيع الخمور حالة بسيطة إذا ما قورنت بالجرائم البشعة التي تحدث هنا، كبيوتٍ وشققٍ مستغلة لعصابات التجارة بالأعضاء البشريَّة، وأخرى كمذاخر لصناعة وبيع الأدوية غير المرخصة قانونياً، أماكن للدعارة والشذوذ الجنسي، مجموعات من المتسولين العرب والعراقيين تزدحمُ بهم فنادق المنطقة، وبيوتات أصبحت صالات قمارٍ».
وأوضح أنَّ «الأمر الذي تعانيه اليوم البتاويين هي قلة الرزق، لأنَّ أصحاب العقارات المؤجرة للمواطنين كانوا يفرضون مبالغ خياليَّة سواء للمحال أو البيوت، ولا بُدَّ من تخفيض مبالغ بدلات الإيجار لأنَّ وارد المحال لا يمكن أنْ يغطي تلك المبالغ، لذلك ستجد الكثير من المحال كُتبَ عليه إما للبيع أو للإيجار»، ونوه (سيد) بأنَّ «بعض أصحاب الأملاك تنازلوا عن مستحقات إيجاراتهم للشهر الماضي لكنَّ المشكلة هي في بقيَّة الشهور كيف يمكن التسديد؟، نتمنى على الحكومة أنْ تجد الحل المرضي للجميع».
نعم شاهدنا وصورنا العديد من المحال التي كتبت عليها لافتات للبيع أو الإيجار كما ذكر لنا المواطن السوداني.
القوات الأمنيَّة الواقفة هناك على أهبة الاستعداد وكأنها في ساحة حرب؟ نعم إنَّها ساحة حرب مع أعتى عصابات الإجرام التي هرب بعض أمرائها وقادتها قبل انطلاق الحملة الى جهاتٍ مجهولة، لأنَّ هناك من أفشى لهم بتوقيت الحملة وزمن انطلاقها، ولكنْ بحسب أقوال بعض قادة قواتنا الأمنيَّة فإنَّ جميع الهاربين لدينا عناوينهم وأماكن تواجدهم وألقينا القبض على أكثرهم والملاحقة مستمرة لبقيَّة المجرمين. مواقع استراحة أبطالنا في أغلبها كما رأيناها إما في مركز شرطة السعدون، أو في الأماكن التي تمَّ تحريرها كمحال بيع الخمور العشوائيَّة وغير المرخصة، ومواقع أخرى كانت تستخدم من قبل العصابات لإدامة نشر الممنوعات، دخلنا في أحد مواقع استراحتهم وهو عبارة عن أسرَّة منامٍ وبعض الكراسي البلاستيكيَّة للجلوس، واستقبلنا رجال الصولة التطهيريَّة برحابة وابتسامات النصر والتعب مرسومة على ملامحهم، بين لنا أحد الضباط أنَّ «المكان الذي نجلس فيه هو (تلخانه) والتلخانه هي صالة للعب القمار وحتى لممارسة الرذيلة».
مؤكدا أنَّ «العديد من التلخانات كانت تملأ أزقة البتاويين وقمنا بإغلاقها»، وقال الضابط ويشاركه الحديث العديد من أفراد مفرزته إنَّ جميع الأزقة التي كانت مغلقة بالحواجز الكونكريتيَّة، هي أمكنة لنشاطات تلك العصابات كمذاخر لأدوية ممنوعة، مخازن لتجارة المخدرات، أماكن لبيع الأعضاء البشريَّة، شقق لممارسة الدعارة والرذيلة».
التفنن في الاختفاء
بين أغلب أبطال قواتنا الأمنيَّة أنَّ الكثير من الأسر التي تسكن منطقة البتاويين متعاونة بشكلٍ مطلقٍ معنا، لكونهم ينشدون السلام والأمان والاستقرار لمنطقتهم بعد أنْ عانوا الويلات من العصابات الإجراميَّة، وأكد أنَّ «أحد المواطنين أخبرنا قبل أيام عن شقق في إحدى العمارات كنا نحسبها بأنها مغلقة ولا يسكنها أحد، لكنْ حين اقتحمناها بعد كسر الأبواب المؤصدة بالأقفال، وجدنا داخلها بيوتاً للدعارة وممارسة الرذيلة وتمَّ القبض عليهم جميعاً، وكانوا يوصدون الأبواب ويفتحونها من خلال الاتصال بأشخاصٍ متعاونين معهم تلفونياً، وهذا دليلٌ واضحُ على أنَّ مهمتنا لم تنته إلا بالقضاء على تلك الشبكات الإجراميَّة نهائياً رغم القضاء على الأغلب منها».
وبين لنا أحد أبطال شرطتنا المتواجدين هناك أنَّه شخصياً «تعاطف مع صاحب بسطيَّة لبيع السكائر تمت إزالة بسطيته من قبل مفارز البلديَّة المتواجدة هناك، ولكنْ بعد التحقيق مع بعض سكنة المنطقة تبين أنَّ بائع السكائر هذا كان عميلاً لأحد تجار المخدرات ويبيع حبوب الكريستال من خلال بسطيَّة سكائره الوهميَّة».
لماذا البتاويين؟
المحلة التي تقعُ شرق بغداد كانت بدايتها زراعيَّة تشتهر ببساتين الخس، سكنها البتاويون في القرن التاسع عشر الميلادي، وهم مجموعة من المزارعين نزحوا من قرية تقع في النهروان شمالي ديالى تسمى (البت) نسبة لنهر البت المتفرع من نهر العظيم. أول سكنتها اليهود لقربهم من معبدهم المسمى «مئير طويق» وكذلك المسيحيون والأكراد وبعض الأسر العربيَّة، وكما يقول محدثنا عدي الخفاجي وهو من سكنة المحلة التي كانت تشتهر برقيها العمراني والسكاني حيث سكنها أغلب السياسيين وتجار بغداد من اليهود وشيوخ القبائل العربيَّة المعروفة، لكنها وكما يقول الخفاجي بعد هجرة اليهود في خمسينيات القرن الماضي ثم تلاه غزو الكويت وما أعقبه من أحداث، جاءت هجرة الأخوة المسيحيين مع توافد الكثير من مواطني المحافظات كأفرادٍ وليس كأسرٍ، والأمر الأكثر خطورة هو اتخاذها سكناً من قبل «الغجر» الذين نزحوا إليها من بقيَّة مدن العراق لتصبح المركز التسويقي لتلك الشريحة التي كانت السبب الرئيس لبداية تدهور البتاويين وتحولها من المشهد السيئ الى الأسوأ بحسب قول محدثنا، لكون سكن الغجر فيها رافقه ما بعد العام 2003 هو افتتاح العديد من محال بيع المشروبات الكحوليَّة وأصبحت مسكناً ومرتعاً للمجرمين والمتسولين وتجار الممنوعات وللهاربات من أسرهنَّ والكثير من المشاهد العجيبة والغريبة التي نراها يومياً في البتاويين، بحيث انه في بناية العمارة الموجود فيها ستوديو الجنائن المقابل لحديقة الأمة تم اكتشاف معملٍ لصناعة المتفجرات والتفخيخ، ولولا انفجاره بالعصابة التي كانت تديره لما اكتشفه أحدٌ بحسب قول الخفاجي، لكون الحكومات السابقة كانت تكافح في حربها ضد الإرهاب والقضاء على عصابات الدواعش واستتباب الأمن في المدن العراقيَّة الأخرى. الخفاجي ناشد الحكومة متمثلة براعي الإصلاح والإعمار المهندس محمد شياع السوداني بحسب قوله أنْ ترافق الصولة الأمنيَّة حملة إعمار للمنطقة، وإعادتها كما أعيدت لشارع المتنبي روحه ورقيه الحضاري، بل نريد أنْ تكون البتاويين كسوق واقف في قطر وبقيَّة الأماكن السياحيَّة في الدول الأخرى.
المختار يناشد الحكومة
المهندس حيدر سالم عبود مختار محلة (101) البتاويين استعرض لنا تاريخ المحلة الطويل وما كانت عليه في السابق، مبيناً أنَّ «رئيس وزراء العراق الأسبق عادل عبد المهدي كانت ولادته في محلة البتاويين شأنه شأن أبناء كبار المسؤولين وأمراء القبائل والتجار الكبار الذين سكنوا المنطقة». وتمنى المختار أنْ «تتزامن مع هذه الحملة الأمنيَّة الكبيرة حملة حكوميَّة عمرانيَّة لإعادة البتاويين الى سابق عهدها، وعلى الأمانة أنْ تفي بعهودها التي جاءت بعد الحملة الأمنيَّة وهي تحويل عشرة أزقة في البتاويين ما بين شارعي النضال وأبو نؤاس الى منطقة تراثيَّة وسياحيَّة مشابهة لما حصل في شارع المتنبي». وأوضح المختار أنَّ «وزارة الداخليَّة صاحبة المنجز الأمني أكدت وعلى لسان متحدثها مقداد الموسوي بأنَّ الحكومة متمثلة بدولة رئيس الوزراء السوداني لديها توجهٌ ملموسٌ لتطوير منطقة البتاويين وتحويلها الى منطقة تراثيَّة وسياحيَّة، وهذا يعني أنَّها ستكون قبلة للزائرين والسياح الأجانب، ما يعني انتعاش المنطقة اقتصادياً من خلال بث الحركة في فنادقها ومطاعمها ومحالها التجاريَّة». تركنا البتاويين وهي تنعم بالهدوء ولأول مرة أشاهد النساء وهن يملأن شوارع وأسواق البتاويين من دون مضايقة من أحد، وكم تمنيت أنْ يعاود الربل حضوره كما كان في سبعينيات القرن الماضي لنغني سويَّة مع مطرب المقام العراقي الراحل يوسف عمر» الليلة حلوة.. حلوة وجميلة.. آه جميلة».