رعد أطياف
إن كانت ثمّة فائدة مرجوّة لهذا الانفتاح الواسع النطاق الذي وفرته لنا التكنولوجيا الفائقة، هو تجلية عميقة وهائلة لدهاليز النفس البشرية. ويمكن القول، وبشكل عام، أنها فتحت باب المعرفة على مصراعيه، وجعلتنا في مواجهة مباشرة مع أعتى السموم النفسية. وفي هذا الميدان الشاسع خسر الكثير أرواحهم وهم على قيد الحياة! وتجلى ذلك الخسران المبين أنهم اشتروا ذلك «الانفتاح» المعرفي، و{الحرية» المزعومة على حساب التواصل المعرفي السويّ. لا يكون الانفتاح لاتجاه فكري ما دلالة على التحرر بالضرورة. قد نستخدم هذه النسخ المُلَطَّفَة كديكور خارجي وقناع سميك لما عجزنا عن تغييره في الداخل، وبالتالي قد تكون دوافعنا مخلوطة بشيء من النفاق، ثم تطفو الرواسب في أول تجربة. وتتجلى الازدواجية بشكل واضح لا لبس فيه، وتساقطت الكثير من الأقنعة وهي تحاول أن تحلم بما ليس لها. يبدو الأمر مقلوباً في هذه الحالة؛ فبينما يسعى الإنسان للانفتاح على كل ما هو جديد لتحقيق كينونته، وفهم نفسه، وتحقيق أقصى درجات الحرية، يسعى بعضنا لهذه التوجهات لتبرير ضغائنه وأحقاده وغروره الفارغ. أنه يترجم عدوانيته وأسلوبه الفجّ بحجة جهل الآخرين لتفريغ المزيد من سمومه النفسية. ليس هذا فحسب، بل لكي يبقي هذه السموم في مأمن عن المساءلة، وخلطها على شكل عصيدة انتقائية لتخرج على شكل «معرفة»، أو أي شيء من هذا القبيل! والحق أن هذا المرض العضال لا يحدث عادةً عند الأسوياء بقدر ما يحدث عن ذوي التوجه الصبياني - مهما اكنت أعمارهم- ظناً منهم أن نزوعاتهم النفسية الملتوية ستبقى في طي الكتمان، وهم لا يعلمون –وهذا دليل على صبيانيتهم- أن فضيحة السموم النفسية لا تغطيها أي نكهة عطرية فوّاحة مهما كان منشئها التجاري باهظ الثمن، ذلك أن السلوك يأتي بفضيحتنا بأقرب مواجهة ممكنة. لذلك لا نستغرب من هؤلاء الذين كانوا يعتقدون أن حصونهم «الثقافية» مانعتهم من السقوط في هاوية الأنا، ذلك أنه كل ما ازدادت المعرفة ازدادت معها الأنا بشكل لافت، في حين ينبغي أن يحدث العكس. ولذلك يتوهم الكثير منّا أن المعرفة في حل عن المساءلة الأخلاقية، بمعنى أوضح، أن معرفتي التي اتبجح بها تغنيني عن الأخلاق، وتبرر لي منطق التعالي. وهذه المصيدة الماكرة معظمنا يسقط في شراكها. إن النزق الصبياني لا يستقيم مع المعرفة! ولصعوبة التجربة نغض الطرف ونتجنب
المتاعب.
كيف يمكر الناس بأنفسهم؟ عبر تسميم الآخرين بأقوالهم وأفعالهم ظنّاً منهم أنهم في حلٍ من أي عاقبة! هذا هو المكر بعينه لو كانوا يبصرون. إنهم مرهونون بشرور أنفسهم التوّاقة لإيلام الآخرين بذريعة محاربة الجهل. يا حسرة عليهم أنّهم يبصقون في وجه الريح. لذلك لا يذكر التاريخ، بشكل عام، سوى المفكرين العظام الذين اعطوا لهذه الأمور أولوية قصوى، أما الصفيح الفارغ لا تاريخ له على الإطلاق.