في الخطاب الفلسفي والحاجة للفلاسفة

آراء 2024/05/23
...

علي المرهج

الخطاب العقائدي وإن أظهر صاحبه أنه معتدل ومتسامح، وقد يكون صادقًا في مسعاه إلا أن في (المسكوت عنه) يحمل بين طياته في التصريح والتلميح خطاب قبول للآخر المختلف، لا بوصفه مشاركًا له في تصور الحقيقة والاعتقاد بها، بل بوصفه إنسانًا يشاركه العيش في أرض سُميت وطنًا. أما الحقيقة فهي عند العقائدي معروفة سلفًا، ولا تحتاج إلى كثير نقاش ومن لا يعتقد بها مثلما هو يعتقد سيتحمل وزر ما أقدم عليه من ارتكاب
 معصية!
كل مجتمع يأفل القول الفلسفي فيه، تأكد أنه مجتمع يُعاني من التخلف، لأن كل أمة حية إنما هي أمة فيها فلاسفة يُؤشكلون على السائد فيها ويستفزون الراكد.
لم يكن للحضارة الإسلامية كون من دون وجود فلاسفة، أو علماء فلاسفة، لذلك كانت حضارتنا العربية الإسلامية نقطة الفصل والوصل بين حضارة أفلت هي الحضارة اليونانية، وحضارة تأصَّلت وتجذَّرت فقدمت للعلم والفلسفة ما هو نافع ومُفيد. في الفلسفة كل شيء قابل للفحص، ويمكن لنا أن نقتنع بأن خطاب الفلسفة بكل ما فيه من بعد خاص هو خطاب كوني، لأنه خطاب لا تخويني.. كل خطاب عقائدي وإن بدى أنه خطاب متسامح عند بعض ممن يُحاولون تهوين البعد الدوغمائي في هذا الخطاب، إلا أنه في النهايات خطاب محكوم بمنظومة فقهية أو نصية تنطلق من مسلمات، وهذه المسلمات تعد بمثابة مقياس للحق، وكل من خالف هذا الحق في أغلب الأحوال وبخطاب متسامح يُقبل وجوده ليُمارس حقه في العيش، وهذا فضل تكرم به صاحب الخطاب
العقائدي.
مثلًا تجد مسيحي معتدل يقبل وجود الإسلامي المعتدل، والعكس صحيح، وتجد سنيًا معتدلًا يقبل بوجود الشيعي المعتدل والعكس صحيح، بحسب تمكن كل جماعة منهم حين الهيمنة على القرار. لا يقبل العقائدي المتطرف عقائدي من دين أو مذهب مخالف له إلا في حال توازن العنف بين الطرفين لامتلاك كليهما أدوات العنف والاقصاء، وقد يقبل كل منهما الآخر في حال كانت للحكومة القدرة على احتكار القوة، لتضع حدًا لصراع المتطرفين بالقوة الشرعية التي تمتلكها بحكم القانون والعقد الاجتماعي الذي توافقت عليه الأطراف لتتمكن هذه الحكومة من إدارة الدولة ومعاملة جميع المواطنين فيها لا على أساس العقيدة أو الدين أوالمذهب، بل على أساس الانتماء للوطن والمساواة في الحقوق والواجبات. في كل ما ذكرنا من جهة احترام المواطنة والدفاع عن حقوق الإنسان، إنما نحن نستقي من خطاب الفلسفة الكوني قدرته على بناء مجتمع متماسك تُحترم به التعددية في الرأي وحرية المعتقد التي لا توفرها بأي حال من الأحوال الأيديولوجيات والمذاهب المسورة بالحقيقة. الخطاب العقائدي وإن أظهر صاحبه أنه معتدل ومتسامح، وقد يكون صادقًا في مسعاه إلا أن في (المسكوت عنه) يحمل بين طياته في التصريح والتلميح خطاب قبول للآخر المختلف، لا بوصفه مشاركًا له في تصور الحقيقة والاعتقاد بها، بل بوصفه إنسانًا يشاركه العيش في أرض سُميت وطنًا. أما الحقيقة فهي عند العقائدي معروفة سلفًا، ولا تحتاج إلى كثير نقاش ومن لا يعتقد بها مثلما هو يعتقد سيتحمل وزر ما أقدم عليه من ارتكاب
 معصية!.
كلما أفل خطاب الفلسفة استفحل خطاب الأيديولوجيا مجموعة أفكار تتبناها جماعة ما لتحقيق مصلحة ما، والدفاع عن هذه الأفكار وكأنها أفكار مطلقة ينبغي على الجميع الإيمان والسعي لتحقيقها؛ وقد شكل هذا أساس الخلاف بين الفلسفة الأيديولوجيا.
تنطلق الأيديولوجيا لوصفها خطابا عقائديا من جهة واحدة إلى جميع الجهات بقصد إلغاء الأبعاد، وهي لا تبحث عن الحقيقة، بل الحقيقة فيها معروفة سلفاً، لأن فعل الأيديولوجيا هو فعل «بروكست» ذلك البطل الاسطوري قاطع الطريق، الذي كان يخطف من على قارعة الطريق ويضع المخطوف فوق سرير وكأن السرير قالب جاهز، فإذا كان المخطوف اطول من السرير قطعه حتى يكون متناسباً مع طول السرير, واذا كان اقصر منه مطه ليناسبه.
توظف كل آليات الفلسفة، وتقصيها لتحل محلها، وهي تبحث عن ما هو نافع لا عن ما هو حقيقي، بينما الفلسفة تبحث عن الحقيقة في كمال ذاتها، لا لتحقيق منفعة ذاتية كما هو الحال في الأيديولوجيا، التي تبحث عن الفكرة النافعة لأنها نافعة لا لأنها حقيقة، لأن الحقيقة في الأيديولوجيا معروفة
 سلفاً.
كل الخطابات الدوغمائية «العقائدية» هي خطابات جدلية، وهي وإن بدت تتبنى خطاب الفلاسفة، إلا أنها في النهاية انها ذات بعد خطاب نفعي مؤطر بأطر قيمية مستقاة من مذاعب فلسفية أو عقائد لاهوتية.
الخطاب العقائدي الأيديولوجي يرتبط أحيانًا بما هو ديني ويتعالق كونها تعقلن المقدس، ذلك أنها ديانات في حدود العقل أو ضمن أشكال العقل، لأنها ليست أكثر عقلانية من الديانات المقدسة، وبتعريف انجلز هي عملية يمارسها الفكر المدعي بوعي ولكنه وعي زائف.
مشكلة الخطاب الدوغمائي أنه خطاب مخاتل يصنع للجماعة صورة مرآوية عن ذاتها «تمجيدية» إيجابية، تجعل الجماعة هي المركز الأساس، وهي الفاعل الأول الذي لا وجود له من دون وجود خصم تُسقط عليه كل الصور السلبية، فهي لا تخاطب وعي البشر بل رغباتهم الصماء اللاشعورية، فالأيديولوجيا نسخة مشوهة من الفلسفة، وتمثل ضرباً من انحراف الوعي عن الحقيقة بفعل تأثير
الرغبة.
الحقيقة في الفلسفة فضاء للبحث والتقصي قد نصل إليها أو ربما لا نصل، ولا عصمة لفيلسوف ولا لمذهب فلسفي وكل ما قيل ويُقال في الفلسفة، إنما هو رأي تأول صاحبه، ولنا حق أن لا نقبل تأويله ولا فهمه، بل ونرفض كل فلسفته، ولا نشعر بأننا ارتكبنا إثمًا قد يُعاقبنا عليه سقراط أوإفلاطون أو أرسطو، وقل كل فلاسفة المثالية والواقعية، وفلاسفة المادية والروحية، بل وفلاسفة العقلانية
والتجريبية.