تـأمّـلات... وتساؤلات
ثقافة
2019/06/09
+A
-A
رعـد فاضل
في فلسفة التّاريخ:
يرىد. محمد عابد الجابري أنّ تطوّر الفكر العربيّ يرتكز على ثلاث بدايات. الأولى تنطلق من نقطة ما داخل(( الجاهلية))، فيما الثانية تنطلق مع انطلاقة((الإسلام)) لتشكّل بداية التّاريخ، ذلك أنّ ما قبلَها كان ((ما قبل التّاريخ)). وهناك من جهة ثالثة بداية النهضة العربيّة الحديثة التي يرى إليها على أنّها بداية ((تاريخ جديد)). ما يهمّني هنا: البداية الأولى والثانية. كأنّ الجابريّ يتحاشى هنا توصيفاً تاريخياً متداولاً لأكثر من مؤرّخ،مع هذا لنأقطع به كي أظلّ أصدر عن التاريخ ليس بوصفه تسجيلاً للأحداث حسب، وإنّما من جهة كونه تحليلاً ابستمولوجيّاً لها،توصيفاً يقول بأنّ السّومريين (5000 ق. م) هم أصلاً ((سكّان سهل الخليج العربيّ الذين خرجوا من بعد أن غمرت مياه البحر العربيّ والمحيطِ الهنديّ سهلهم، فانتقلوا إلى جنوب العراق)) [د.بهنام أبو الصّوف، مَن هم السّومريّون، مدوّنة الموقع، العراق في التاريخ]. وعلى وفقهذا يمكن أن يكون ما يعرف بالعصر الجاهليّ (قياساً بتاريخ الإسلام) نوعاً من ((ما قبل التاريخ))للإسلام حسب، وليس للعربما دام الجابريّ يبحث في تطوّر العقل (العربيّ) ونقده تخصيصاً، وليس في العقل العربيّ (الإسلاميّ).الجاهلية مصطلح اسلاميّ يُقصد به ليس فقط الجهل بمعنى عدم العلم وانتفاء المعرفة، بل أيضاً (ولربّما كان هذا هو مقصد الجابريّ) ما يرافق الجهل وينتج عنه، أعني الفوضى وانعدام الوازع الجماعيّ، سياسيّاً (الدّولة)، وروحيّاً (الدّين) ثمّ يبني على هذا الفهم توصيفه للمصطلح. ولكن ألم تكن الكهانة عند العرب نوعاً من الحكمة والفـراسة والحدوس، وفوق ذلك كان لها نوع أدبيّ ما بين رؤيويّ وأخلاقيّ وسياسيّ وتنظيميّ يُعرفبسجع الكهّان؟. وأيضاً ألم يكن الشّعر عند عرب ما قبلَ الإسلام نوعاً من التأمّل والكشف والابداع؟. ألم تكن العَرافة نوعاً من فهم الماضي، والكهانةُ نوعاً من قراءة المستقبل من قبل الإنسان العربيّ وإن كانت تخييلاً وضرباً في الغيب، ذلك أنّ الأساس الأوّللكلّ معرفيّة هو الخيال والحدس؟. مع هذا كان للعرب قبل الإسلام حضارات قديمة كمملكة الأنباط (169ق.م- 106 م) في الأردنّ وسيناء والنّقب وأجزاء من شمال شبه الجزيرة العربية، ومملكة دادان (600ق. م- 100 ق.م) وسط شبه الجزيرة العربية، ومملكة قيدار (745 ق.م- 727 ق.م)، ثمّ قريباً من ظهور الإسلام دولتا الغساسنة، والمناذرة (هذا من الناحية السياسيّة والثقافيّة). مثلما كانوا قد عرفوا التّوحيد باكراً بوصفهم أحنافاً، والإيمانبإله ميتافيزيقيّ يتطلّب عقليّة ميتاجماليّةً، إلى جانب أنّ الغساسنة أنفسهم كانوا يدينون بالمسيحيّة (هذا من الناحية الروحيّة والأخلاقيّة). ذلك ببساطةٍ يعني أنّه كان للعرب قبل الإسلام نظام سياسيّومعرفيّ وثقافيّ وأخلاقيّ. وأيضاً يمكن أن تعدّ الثقافة العربية (الشّفاهية) نوعاً آخر من المعرفة حتّى بداية تدوينها في القرن الثاني للهجرة.
النُّخبـويّة والعُـضويّة:
هل يمكن أن تكون كلّ كتابة أدبيّة وفلسفيّة ونقديّةٍ (مُبدعة) عضويّةً حسب(الفهم السّائد)لرؤية أنطونيو غرامشي عن المثقّف العضويّ؟. ثقافة هذهالكتابة، وبعيداً عن الفهم السّائد الذي ألحقها بمتغيّرات الواقع المختلفة، ونظر إليها وكأنّها ردّ على فعل سياسيّ أو اجتماعيّ...، وليس فعلاً ابداعيّاّ انتاجيّاً، ماهي في الحقيقة إلّا ثقافـة نخبويّة في المقام الأوّل؛ كونها نتاجاً نظريّاً تجريديّاً، ومعنيّةٌ بالإنسان والأشياء ثانيّاً.
غرامشي في الحقيقة ربط الثقافة بالفلسفة الماركسيّة من جهة، ونظّر لما أسماه بــ ((الفيلسوف الدّيموقراطيّ)) من جهة أخرى!، مع أنّ الدولة الحديثة نفسها من وجهة نظر ماركس نفسه ليست إلّا(( لجنة تدير القضايا المشتركة لكلّ البورجوازيّة)).
مع ذلك أيضاً: أليس هذا من جوهر عمل المُنظِّر السياسيّ، وعالم الاجتماع، والإعلاميّ والباحث الاجتماعيّ، والواعظ، وداعية الإصلاح... كونهم الأكثر فاعليّة ومحايثةوالتصاقاً بحيثيات حياة الناس ويوميّاتهم ومتطلّباتهم بشتّى مفاصلها، فضلاً عن أنّ أسلوبهم الوعظيّ الإرشاديّ هو الأقربوالأكثر تأثيراًمن أساليب الأدب بعامّةٍ، بوصف هذه الثقافة أخلاقيّةً بالمعنى الفلسفيّ القيميّ لأنّها تنصرف الى تنظيم العلاقات الاجتماعية والسلوكيّة مُشكِّلةً منظومة من القواعد في المجتمعات؟.ميّز غرامشيّ في مفهومه للثقافة العضويّة بدقّة بين نوعين من المثقفينَ لا يزالان مختلطينِ تداوليّاً عندنا: ((إنّ التمييز ما بين المبدع والمنسِّق ليس تمييزاً تحليليّاً محضاً، بل هو غنيّ بالنتائج الاستراتيجيّة)) [غرامشي، دراسة ومختارات، ترجمة ميخائيل ابراهيم، سلسلة أصول الفكر الاشتراكيّ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ، دمشق 1973، ص 15]. هذا معناه أنّ هنالك مثقفاً عضويّاً يتوفّر على متطلّبات (الإبداعيّة) بكلّ مواصفاتها المعروفة من تجاوز وتحوّل وتطوّر وتواصل وانتاجٍ...، وآخرَ تَـبَعاً ذيليّـاً منسِّقــاً ما من انتاجٍ ابداعيّ ذاتيّ لثقافته.
والآنَ مثالاً لا حصراً: انصبّت نظريّة الكنديّ الفلسفيّة على محاولة التّوفيق ما بين الفلسفة والدّين، في الوقت الذي حاول فيه الفارابيّ وابن سينا تناول الدّين فلسفيّاً بغية تأسيس فلسفة اسلامية لا تستند إلى الأصل القرآنيّ والنبويّ بقدر ارتكازها على الفهم العرفانيّ وأصوله الهرمسيّة الغنوصيّة، وبمعنىً آخر أرادا تَـبْيـئةَ العقلانيّة البرهانيّة في محيط عرفانيّ.
فهل يعدّ الكنديّ والفارابيّ وابن سينا (أسلوباً وخطاباً) مثقفينَ عضويينَ وفقاً لمفهوم العضويّة (التّنسيقيّة) الدّارج هذا؟. وهل (أسلوب وخطاب) غرامشيّ نفسه قابلان للتداول (العضويّ التّنسيقيّ)، أم قابلان للتداول الإبداعيّ (النّخبويّ)؟.
الشّفرة بوصفها خصوصيّةً:
يرى كُـلَـر أنّ ((فكرة الشّفرة...، تقتضي معرفةً جمعيّة، ومعاييرَ مشتركة)) [الشعريّة البنيويّة، 285]. هذا يعني لا بدّ أن يكون هنالك نظام عامّ لمفهوم الشّفرة وآلياتها، يتمّ من خلاله التعامل مع النصّ الأدبيّ.
أي لا يمكن بهذا المعنى (وفقاً لِكُلر) القول بقيام أنظمة شخصيّة من جهة القراءة، للتّعامل مع شفرة كلّ نصّ من النّصوص. ولكن- ولأصُغْ سؤالاً مستعيناً بتوصيف لبارت-: كيف يمكن أن يصحّ مثل هذا الإعمام و((كلّ نصّ له شفراته الخاصّة به)) التي قد تكون شفراتٍ مُبتدَعة أو مبتكَرة؟.
ثمّ إنّ تعدّد نوعية الشّفرات في نصوص مختلفة، فضلاً عن تعدّد طرائق اشتغالها وتباينها يقتضي أوّلاً من القراءة اكتشاف هذه الشّفرات وآلياتها، ومن ثمّ تحليلهاوتوصيفها، إذ إنّ وجود نظام عام للشّفرات قد ينطبق على نصوص بعينها دون أخرى ممّايجعل من عملية فكّ هذه الشفرات في ارتكاس دائم.التطلّب الذي قد يكون الأكثر دقّة إذن هو عدم الارتكاز على نظام– أنموذج عامّ للشّفرات، ممّا سيجعل من توصيف دريدا لفكرة الشّفرة معرفةً ومعاييرَ مشتركة، هو الأكثر موضوعيّة واتّساعاً في علم العلامات كونه يُعنى بالعلامات والرموز والأدلّة، وبما هو لغويّ وبصريّ إلخ...، إذ يرى أنّه ((لا يمكن أن تتطوّر السّيميوطيقا، إلّا بوصفها نقداً للسّيميوطيقا))، أي أن ((يظلّ البحث في السّيميوطيقا استقصاءً لا يقوم باكتشاف شيء في نهاية بحثه، سوى حركاته الآيديولوجية الخاصّة، لكي تقوم بأدوارها وانكسارها، والشّروع من جديد))[الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم
جهاد، 143].