قـــراءة فــي روايـــــة «مســجـــون»

ثقافة 2019/06/09
...

حنان الشرنوبي
 
فضلًا عن وظيفتِه الفنيّة فإن للمكان بُعدَه التاريخيّ والاجتماعيّ والنفسيّ الذي يُرتَبَط به فيتغلغلُ في أعماق الذاتِ ليصبح جزءًا منها وبمجرد رؤيتِنا لمكانٍ بعينِه فإننا نسترجع هذه الأبعاد وما فيها من دلالاتٍ محببة للنفسِ أو تدعوها للألم؛ فالشقاء يقابله السعادة، والأعلى يقابله الأدنى، والقصر يقابله الكوخ؛ والمكان المألوف يقابله المكان.. المعادي. وقد تبدو هذه الثنائيات متعارضة ولكنها في الحقيقة (متكاملة). فالبطل كان رئيسًا لدولة من دول العالم الثالث حيث كثُرت الثورات بسبب انعدام الديمقراطية وطغيان الفساد في التعليم والصحة والإعلام وغيرها.. ولقد سكن البطلُ القصرَ وهو مكان( إقامة اختياريّة) غير أنّه انقطع فيه عن الواقع ولكنه حينما أصبح نزيلًا حيث (الإقامة الاجبارية) اتصل بماضيه واستدعى ذكرياتِه؛ فالمكان ليس مجرد  مسرح للأحداث وإنما هو بطلٌ مشاركٌ في بناء الشخصية ويمثل رؤية وفِكر يعبر عنها الكاتب. 
وعبر الرواية يظهر المنهج الفينومنولوچي الذي يعبّر عن خبرة الوعيّ بالأشياء(والوعي هنا هو الشعور بروح المكان المعادي) مثل :المقبرة/ساحات المعارك/الملاجيء/الملازم الكرسي أو الفراش/الأرصفة/… والسجون. 
وكلها أماكن معادية ولا حصر لها. وعلى قدر انسجام الفرد مع المكان تتحدد نسبيّةُ تآلفِه معه أو كراهتِه له؛ فالقصر قد يكون مكانا مألوفًا لشخصٍ ما وسجنا معاديا لشخصٍ آخر؛وبهذا نجد أن الأديب قد استعمل معاني المكان المألوف بشكل مضاد. 
ولا يعني هذا أن السجن قد يتحول بأي حالٍ من الأحوال إلى مكان مألوف أو أن البطل قد أَلِفَ هذا السجن المرفَّه، فهو دائمًا وأبدًا مكان معادي وملعون يمثل العزلة والقهر. إنّه أكثر المآوي تعاسةً فالبطل يرتعش ويبكي خلف جدران سميكة حددت إقامتَه بأقوى التحصينات ولكنّه هنا أصبح ملجأً لماضٍ لا يُنسى؛ إذن فالمكان والزمان إطاران لحياة كلِّ إنسان فالكاتب لم يخلق شخصياتِه وهي تتحرك في الفراغ إنما أسّس لها مجالا مكانيًّا وإطارا زمانيًّا كي تنشأ تلك العلاقة الديناميكية بين الشخصية والزمان والمكان فينشأ ما يسمّى ب(التأثير النفسي للمكان). 
وعبر الصفحات الأولى نجد البطل يرى الغرفة الضيّقة نصف المظلمة ..قد صارت متّسعة؛بل وينثر على أرجائِها المتخمة بالرطوبة أفكاراً شديدة الحرارة. فالمكان المظلم جعلنا نُطِلُّ مع البطل على العالم الخارجي عبر افكارِه؛ فخرج بنا من عالمه الواقعي إلى ما هو مسترجَع flash back حتى يصل إلى لحظة معينة يقول فيها :(ولحظتها بالذات مرّت في خاطري كل سنين عمري في شريط واحد هرول مارًّا أمام عيني، واضحًا جليًّا بكل تفصيلاتِه وأحداثه في أحلى صورةٍ وأكمل بيان). 
وتُذكرنا هذه العبارة بما قاله( باشلار) في جدلية الزمن:أن اللحظة هي التي تحدد الذكريات فعلًا وواقعًا. 
وتؤكد عبارة( باشلار)  معنى أن الذكريات المستعادة ليست معطيات  ذات أبعاد هندسية أو جغرافية. 
والسؤال المطروح هنا.. كيف فتح هذا المكان الضيق بابًا لكشف الذات والمصارحة النفسية؟
*أهو ذاك القلم المُلقى أمامه على الطاولة يدعوه لسردِ مجموعة الصور المختزنة بعقله فيثير ذاكرتَه ويكتشف ذاتَه؟
*أم هو ذلك الصمت الساكن معه في الزنزانة قد خلق الفراغ واستدعى ذكريات لازالت مُحاطة بالواقع وعندها استعاد البطل ذاتَه الأصيلة؛ فحلَّ السلام والسكون وهو ما عبّر عنه( جاستون باشلار) في كتابِه (جماليات المكان) بقوله :(إن المكان في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها يحتوي على الزمن مكثفًا) 
*أم أن السجن الذي عَهِدْنا فيه حماية المجتمع من المسجون صار يحميه من المجهول ومن عالم خارجيّ ثائر يطالب بإعدامِه؟
إذن فالخوف لم يأتِه من الماضي وإنما من المجهول الذي ينتظره خارج هذه الجدران؛ لذلك عندما وجد المسجون الحماية شعر بالحريّة وهنا تكمن المفارقة التي تقودُنا إلى القول بوجود الحريّة داخل الإنسان لا في محيطِه الخارجي. وربما لأنه مسجونVipوله معاملة خاصّة.. لكنه شعر بالعجز التام في هذا الفضاء المغلق فانعكس على قدرته على المواجهة وإن كانت مع الورق. 
والرواية تُعَرِّض بصورة واضحة على الرئيس المخلوع حسني مبارك ورغبة زوجته في أن يخلف ابنهما الحكم والثورة على ذلك وما حدث في موقعة الجمل  دون أن يصرّح الكاتب بذلك.. فلماذا؟
كما لم يبرع الكاتب  في توظيف الجانب الفانتازي ومزْجِه بالجانب الواقعي.
ولكنه عبّر عن بعض المواقف الإنسانية وتعاطُف الشعب معه. كما رصد بعض المشاهد التاريخية وسجّلها ليحكم عليها الأجيال المتعاقبة.